أَبَى الشَّوقِ إلاَّ أَن يَحِنَّ ضَميرُ – محمود سامي البارودي

أَبَى الشَّوقِ إلاَّ أَن يَحِنَّ ضَميرُ … وكُلُّ مَشوقٍ بالحَنينِ جَديرُ

وَهَلْ يَسْتَطِيعُ الْمَرْءُ كِتْمانَ لَوْعَة ٍ … يَنِمُّ عَلَيْهَا مَدْمَعٌ وَزَفِيرُ؟

خَضَعْتُ لأَحْكَامِ الْهَوَى ، وَلَطَالَمَا … أَبَيْتُ فَلَمْ يَحْكُمْ عَليَّ أَمِيرُ

أفُلُّ شباة َ اللَّيثِ وهوَ مُناجِزٌ … وأرهبُ لَحظَ الرِئمِ وَهوَ غَريرُ

وَيَجْزَعُ قَلْبي لِلصُّدُودِ، وَإِنَّنِي … لَدى البأسِ إن طاشَ الكَمِى ُّ صَبورُ

وَمَا كُلُّ مَنْ خَافَ الْعُيُونَ يَرَاعَة ٌ … وَلا كُلُّ مَنْ خَاضَ الْحُتُوفَ جَسُورُ

وَلكِن لأَحكامِ الهَوى جبَريَّة ٌ … تَبوخُ لَها الأنفاسُ وَهى تَفورُ

وإنِّى على ما كانَ مِن سَرَفِ الهَوى … لَذُو تُدْرَإٍ في النَّائِباتِ مُغِيرُ

يُرافِقُنى عِندَ الخُطوبِ إذا عَرَت … جَوادٌ ، وسَيفٌ صارِمٌ ، وجَفيرُ

وَيَصْحَبُنِي يَوْمَ الْخَلاَعَة ِ وَالصِّبَا … نَديمٌ ، وكَأسٌ رَيَّة ٌ ، ومُديرُ

فَطَوْراً لِفُرْسَانِ الصَّبَاحِ مُطَارِدٌ … وَطَوْراً لإِخْوَانِ الصَّفَاءِ سَمِيرُ

وَيَا رُبَّ حَيٍّ قَدْ صَبَحْتُ بِغارَة ٍ … تَكادُ لَها شُمُّ الجِبالِ تَمورُ

وَلَيْلٍ جَمَعْتُ اللَّهْوَ فِيهِ بِغادَة ٍ … لَها نَظرة ٌ تُسدِى الهَوى وتُنيرُ

عَقَلْنَا بِهِ مَا نَدَّ مِنْ كُلِّ صَبْوَة ٍ … وَطِرنا مَعَ اللّذَاتِ حَيثُ تَطيرُ

وَقُلنا لِساقينا أَدِرهَا ، فإنَّما … بَقاءُ الفتى بَعدَ الشَبابِ يَسيرُ

فَطافَ بِها شَمسيَّة ً ذَهبيَّة ً … لَهَا عِنْدَ أَلْبَابِ الرِجالِ ثُئُورُ

إذا ما شرِبناها أَقمنا مكانَنا … وَظَلَّتْ بِنَا الأَرْضُ الْفَضَاءُ تَدُورُ

إِلى أَنْ أَمَاطَ اللَّيْلُ ثِنْيَ لِثَامِهِ … وكادَت أساريرُ الصَباحِ تُنيرُ

ونَبَّهَنا وَقعُ النَدى فى خَميلة ٍ … لَها مِن نُجومِ الأقحوانِ ثُغورُ

تَناغَت بِها الأطيارُ حِينَ بَدا لَها … مِنَ الْفَجْرِ خَيْطٌ كالْحُسامِ طَرِيرُ

فَهُنَّ إلى ضَوءِ الصَباحِ نَواظِرٌ … وعَن سُدفَة ِ اللَّيل المجَنَّحِ زورُ

خَوَارِجُ مِنْ أَيْكٍ، دَوَاخِلُ غَيْرِهِ … زَهاهُنَّ ظِلٌّ سابِغٌ وَغديرُ

تَوَسَّدُ هَامَاتٌ لَهُنَّ وَسَائِداً … مِن الرِّيشِ فيهِ طائِلٌ وَشَكِيرُ

كَأنَّ عَلى أعطافِها مِن حَبيكها … تمائمَ لَم تُعقَد لَهُنَّ سُيورُ

إذا ضاحَكتها الشَّمسُ رَفَت ، كَأنَّما … عَلى صَفحتيها سُندُسٌ وَحريرُ

فَلمَّا رأيتُ اللَّيلَ وَلَّى ، وأقبَلَت … طَلائِعُ مِنْ خَيْلِ الصَّبَاحِ تُغِيرُ

ذَهَبْتُ أَجُرُّ الذَّيْلَ تِيهاً، وإِنَّمَا … يَتِيهُ الْفَتَى إِنْ عَفَّ وَهْوَ قَدِيرُ

وَلِي شِيمَة ٌ تَأْبَى الدَّنَايَا، وَعَزْمَة ٌ … تَفُلُّ شَباة َ الْخَطْبِ وَهْوَ عَسِيرُ

مُعوَّدة ألاَّ تكُفَّ عِنانَها … عَنِ الجِدِّ إلاَّ أن تَتِمَّ أُمورُ

لَها مِن وَراءِ الغَيبِ أذنٌ سَميعَة ٌ … وعينٌ تَرى ما لا يراهُ بَصيرُ

وإنِّى امرؤٌ صَعبُ الشَّكيمَة ِ بالِغٌ … بِنَفسى شَأواً ليسَ فِيهِ نَكيرُ

وَفيتُ بِما ظَنَّ الكِرامُ فِراسَة ً … بِأَمْرِي، وَمِثْلِي بِالْوَفاءِ جَدِيرُ

فما أنا عَمَّا يُكسِبُ العِزَّ ناكِبٌ … وَلا عِنْدَ وَقْعِ الْمُحْفِظَاتِ حَسِيرُ

إذا صُلتُ كَفَّ الدَّهرُ مِن غُلوائهِ … وإن قُلتُ غَصَّت بِالقلوبِ صُدورُ

مَلَكْتُ مَقَالِيدَ الْكَلامِ، وَحِكْمَة ً … لَهَا كَوْكَبٌ فَخْمُ الضِّيَاءِ مُنِيرُ

فَلَوْ كُنْتُ في عَصْرِ الْكَلامِ الَّذِي انْقَضَى … لَبَاءَ بِفَضْلِي «جَرْوَلٌ» و«جَرِيرُ»

ولَو كُنتُ أدركتُ النُّواسِى َّ لم يَقُل … أَجَارَة َ بَيْتَيْنَا أَبُوكِ غَيُورُ

وَمَا ضَرَّنِي أَنِّي تَأَخَّرْتُ عَنْهُمُ … وَفَضلِى َ بينَ العالمينَ شَهيرُ

فَيَا رُبَّمَا أَخْلَى مِنَ السَّبْقِ أَوَّلٌ … وَبَدَّ الجِيادَ السابِقاتِ أَخيرُ