متى أنتَ عَن أحموقة ِ الغى ِّ نازِعُ – محمود سامي البارودي
متى أنتَ عَن أحموقة ِ الغى ِّ نازِعُ … وفى الشَّيبِ للنَّفسِ الأبيَّة ِ وازِعُ ؟
أَلاَ إِنَّ فِي تِسْعٍ وَعِشْرِينَ حِجَّة ً … لِكُلِّ أَخِي لَهْوٍ عَنِ اللَّهْوِ رَادِعُ
فحتامُ تصبيكَ الغوانى بِدلِّها … وتَهْفُ وبِلِيتَيْكَ الْحَمَامُ السَّوَاجِعُ؟
أما لكَ فى الماضينَ قبلكَ زاجرٌ … يَكفُّكَ عن هذا ؟ بلى ، أنتَ طامِعُ
وَهَلْ يَسْتَفِيقُ الْمَرْءُ مِنْ سَكْرَة ِ الصِّبَا … إذا لم تُهذِّب جانبيهِ الوقائعُ ؟
يَرَى الْمَرْءُ عُنْوَانَ الْمَنُونِ بِرَأْسِهِ … ويذهبُ يُلهى نفسَهُ ويصانِعُ
أَلا إِنَّمَا هَذِي اللَّيَالِي عَقَارِبٌ … تَدِبُّ، وَهَذَا الدَّهْرُ ذِئْبٌ مُخَادِعُ
فلا تحسبنَّ الدَّهرَ لعبَة َ هازلٍ … فما هوَ إلاَّ صرفهُ والفجائعُ
فَيَا رُبَّمَا بَاتَ الْفَتَى وَهْوَ آمِنٌ … وأصبحَ قَد سُدَّت عليهِ المطالِعُ
ففيمَ اقتناءُ الدِّرعِ والسَّهمُ نافِذٌ ؟ … وَفِيمَ ادِّخَارُ الْمَالِ وَالْعُمْرُ ضَائعُ؟
يَودُّ الفتى أن يَجمعَ الأرضَ كُلَّها … إليهِ ، ولمَّا يدرِ ما اللهُ صانِعُ
فَقَدْ يَسْتَحِيلُ الْمَالُ حَتْفاً لِرَبِّهِ … وَتَأْتِي عَلَى أَعْقَابِهِنَّ المَطَامِعُ
أَلا إِنَّمَا الأَيَّامُ تَجْرِي بِحُكْمِها … فَيُحْرَمُ ذُو كَدٍّ، وَيُرْزَقُ وَادِعُ
فلا تقعدَن للدهر تنظر غِبَّهُ … على حَسرة ٍ ، فاللهُ مُعطٍ ومانعُ
فلو أنَّ ما يُعطى الفتى قدرُ نفسهِ … لما باتَ رِئبالُ الشَّرى وهوَ جائعُ
ودَع كًلَّ ذى عقلٍ يسيرُ بعقلهِ … يُنازِعُ من أهوائهِ ما ينازعُ
فما النَّاسُ إلاَّ كالَّذى أنا عالمٌ … قَدِيماً، وَعِلْمُ الْمَرْءِ بِالشَّيءِ نَافِعُ
ولستُ بِعلاَّمِ الغيوبِ ، وإنَّما … أَرَى بِلِحَاظِ الرَّأْيِ مَا هُوَ وَاقِعُ
وَذَرْهُمْ يَخُوضُوا، إِنَّمَا هِيَ فِتْنَة ٌ … لَهُمْ بَيْنَهَا عَمَّا قَلِيلٍ مَصَارِعُ
فَلَوْ عَلِمَ الإِنْسَانُ مَا هُوَ كَائِنٌ … لما نامَ سُمَّارٌ ، ولا هبَّ هاجِعُ
وما هذِهِ الأجسامُ إلاَّ هياكلٌ … مُصوَّرة ٌ ، فيها النُّفوسُ ودائعُ
فَأَيْنَ الْمُلُوكُ الأَقْدَمُونَ تَسَنَّمُوا … قِلاَل الْعُلاَ؟ فَالأرْضُ مِنْهُمْ بَلاقِعُ
مَضَوْا، وَأَقَامَ الدَّهْرُ، وَانْتَابَ بَعْدَهُمْ … مُلُوكٌ، وَبَادُوا، وَاسْتَهَلَّتْ طَلاَئِعُ
أَرَى كُلَّ حَيٍّ ذَاهِباً بِيَدِ الرَّدى … فهل أحدٌ ممَّن ترحَّلَ راجِعُ ؟
أنادى بِأعلى الصوتِ ، أسأل عنهمُ … فهل أنتَ يا دهرَ الأعاجيبِ سامِعُ ؟
فإن كنتَ لم تَسمع نِداءً ، ولم تُحرْ … جَوَاباً، فَأَيُّ الشَّيْءِ أَنْتَ أُنَازِعُ؟
خيالٌ لَعمرى ، ليسَ يُجدى طِلابهُ … وَمَأْسَفَة ٌ تُدْمَى عَلَيْهَا الأَصَابعُ
فَمَنْ لِي وَرَوْعَاتُ الْمُنَى طَيْفُ حَالِمٍ … بِذِي خُلَّة ٍ تَزْكُو لَديْهِ الصَّنَائعُ؟
أشاطِرهُ ودِّى ، وأُفضى لِسمعهِ … بِسرِّى ، وأُمليهِ المُنى وهو رابِعُ
لَعلِّى إذا صادفتُ فى القولِ راحة ً … نَضَحْتُ غَلِيلاً مَا رَوَتْهُ الْمَشَارِعُ
لَعَمْرُ أَبِي، وهْو الَّذِي لَوْ ذَكَرْتُهُ … لما اختالَ فخَّارٌ ، ولا احتالَ خادِعُ
لما نازَعتنى النَّفسُ فى غيرِ حَقِّها … وَلاَ ذَلَّلَتْنِي لِلرِّجَال الْمطَامِعُ
ومَا أَنَا وَالدُّنْيَا نَعِيمٌ وَلَذَّة ٌ … بِذِي تَرَفٍ تَحْنُو عَلَيْهِ الْمَضَاجِعُ
فلا السيفُ مَفلولٌ ، ولا الرَّأى ُ عازبٌ … وَلاَ الزَّنْدُ مَغْلُولٌ، وَلاَ السَّاقُ ظَالِعُ
وَلَكِنَّنِي فِي مَعْشَرٍ لَمْ يَقُمْ بِهِمْ … كَرِيمٌ، وَلَمْ يَرْكَبْ شَبَا السَّيْفِ خَالِعُ
لواعبُ بالأسماءِ يبتدِرونها … سَفاهاً ، وبالألقابِ ، فهى بضائعُ
وهلْ فِي التَّحَلِّي بِالْكُنَى مِنْ فَضِيلَة ٍ … إذا لم تزيَّن بِالفعالِ الطبائعُ ؟
أُعاشِرُهُمْ رَغْماً، وَوُدِّي لَوَ انَّ لِي … بِهِمْ نَعَماً أَدْعُو بِهِ فَيُسَارعُ
فيا قومُ ، هبُّوا ، إنَّما العُمرُ فرصة ً … وفى الدهرِ طُرقٌ جَمَّة ٌ ومنافِعُ
أَصَبْراً عَلَى مَسِّ الْهَوَانِ وَأَنْتُمُ … عديدُ الحصى ؟ إنِّى إلى اللهِ راجِعُ
وَكَيْفَ تَرَوْنَ الذُّلَّ دَارَ إِقَامَة ٍ … وذلكَ فضلُ اللهِ فى الأرضِ واسِعُ
أرى أرؤساً قَد أينعتْ لِحصادِها … فَأَيْنَ وَلاَ أَيْنَ السُّيُوفُ الْقَوَاطِعُ؟
فكونوا حصيداً خامدينَ ، أوِ افزعوا … إِلَى الْحَرْبِ حَتَّى يَدْفَعَ الضَّيْمَ دَافِعُ
أهبتُ ، فعادَ الصَوتُ لم يَقضِ حاجة ً … إلى َّ ، ولبَّانى الصَدى وهوَ طائعُ
فَلَمْ أَدْرِ أَنَّ اللَّه صوَّرَ قَبْلَكُمْ … تماثيلَ لم يُخلَقْ لَهُنَّ مسامِعُ
فلا تَدعوا هَذى القلوبَ ، فإنَّها … قواريرُ مَحنى ٌّ عليها الأضالِعُ
وَدُونَكُمُوهَا صَعْدَة ً مَنْطِقِيَّة ً … تَفُلُّ شَبَا الأَرْمَاحِ وَهْيَ شَوَارِعُ
تَسِيرُ بهَا الرُّكْبَانُ فِي كُلِّ مَنْزِلٍ … وتلتفُّ من شوقٍ إليها المجامعُ
فَمِنْهَا لِقَوْم أَوْشُحٌ وَقَلائِدٌ … ومنها لِقومٍ آخرينَ جوامعُ
ألا إنَّها تِلكَ الَّتى لو تنزَّلت … على جبلٍ أهوت بهِ ، فهو خاشِعُ