يا مدينةْ – عبدالعزيز جويدة

أنتِ بغدادُ الحزينةْ

كلُّ ما في الأُفْقِ غِربانٌ وبومْ

حَولنا حَيرَى تَحومْ

والنجومْ

لم تعُد تلكَ النجومْ

والرِّفاقْ

والأحِبَّةْ

فارَقونا

هذهِ أجسادُنا

في بحارِ النَّزْفِ تَسبحْ

والهُمومْ

لملمي الأشلاءَ

ألقيها أمامي

رُبّما حاولتُ أعرفْ

أينَ وجهي ؟

أين كفّي ؟

أينَ لحمي وعِظامي ؟

رُبما أغدو كريشٍ في جَناحاتِ هُيامي

تنفُضُ الحزنَ الذي ما بينَ قلبِكْ

من حُطامي

آهِ يا ثَكْلَى

على كِتْفَيَّ نامي

لستُ أعرفْ

أينَ أسماءُ الشّوارعْ

أو عناوينُ البيوتْ ؟

صوتُ خُفّاشٍ وبومٍ

وبقايا عَنكبوتْ

أنتِ بغدادُ السكوتْ

كلُّ شيءٍ أرمُقُهْ

كلُّ شيءٍ ألمَسُهْ

منّي يموتْ

تحتَ جُدرانِ المنازلْ

صوتُ أطفالٍ تئنْ

مثلَ مجنونٍ أُنادي

يا صغيري

اطمَئنْ

أَرفعُ الجُدرانَ وحدي

فأرى وهماً وظنْ

وصغاراً تحملُ الدُّمياتِ ماتتْ

ويدٌ تمتدٌّ

كانتْ

مِن حبيبٍ لحبيبَةْ

لحظةَ القصفِ تلاقتْ

وتلاشتْ

عندما الأرواحُ فاضتْ

واختلاطٌ بينَ دمٍّ

وعظامٍ وترابْ

وحقيبةْ

وكتابْ

وبقايا مِن نقودٍ

كانَ مصروفَ الذّهابْ

وطعامٌ وشرابْ

وعيونٌ فارقتْها

كلُ أحلامِ الشبابْ

وذراعينِ لأمٍّ

مُدَّتا

في لحظةِ القصْفِ لأنَّ

طفلها للتَوِّ آبْ

يا مدينةْ

يا حزينةْ

يا خرابْ

ضِفَّةٌ للنهرِ ظلَّتْ

ضِفَّةٌ في القصفِ ولَّـتْ

صارَ نهرُكْ ..

صارَ مبتورَ الضِفافْ

صارَ أعرجْ

حينَ يخرجْ

يتمشّى في المدينةْ

يتدحرجْ

يطرُقُ الأبوابَ يأساً فوقَ عُكازٍ

ويصرُخْ :

يا مدينةْ …

يا منازلْ …

يا حقولْ …

لم يجِدْ حيّاً يَرُدْ

غيرَ أصداءِ الطُّلولْ

يا مدينةْ

يا حزينةْ

لم يعُدْ غيرُ البقايا

والشخوصْ

وخرابٍ

ودمارٍ

ولصوصْ

وبقايا مِن قُروطٍ

وحُليٍّ

وثِيابْ

وفُصوصْ

وغُبارٍ

ودُخانْ

أينَ أنتَ

يا مكانْ ؟

أينَ أنتَ

يا زمانْ ؟

كلُّ شيءٍ صارَ يهرُبْ

الشّموسْ

والسماءْ

والدقائقْ

والثّوانْ

وأنا أرنو أمامي

لا أرى غيرَ حُطامي

وشعورَ الامتهانْ

جُرحُنا

غيرُ الجروحِ السابقاتْ

ليسَ يُشبهُ “كربلاءٍ” في الصفاتْ

جُرحُنا يمتدُّ من أقصى الأقاصي

للسماءْ

جُرحُنا دونَ حدودٍ

فوقَ طاقاتِ التحمٌّلْ

والبلاءْ

جُرحُنا جُرحٌ عميقٌ في صميمِ الكبرياءْ

آهِ يا أرضَ الظِّباءْ

واقِفٌ وحدي

وخلفي

امتدادٌ لفراغٍ وفضاءْ

والنَّوارسْ

لمَ تعُدْ تأتي إلينا

في الشِّتاءْ

والأماني خاصمتْنا، والرجاءْ

والمساءْ

لم يعدْ يأتي إلينا

في المساءْ

كلُّ هذا الكونِ مفتوحٌ كجُرحٍ

كلُّ هذا الأفقِ مصبوغٌ دماءْ

وأنا وحدي أخُطُّ

قصّةَ القلبِ الممزقْ

في رثاءْ

في بلادٍ قيلَ عنها ..

إنَّها كانتْ بلادَ الأنبياءْ

يا بلادَ الأنبياءْ

صرت كنتِ

ذاتَ يومٍ

من بلادِ الأغبياءْ