هَمَّ فَجْرُ الحَيَاةِ بِالإِدْبَارِ – خليل مطران
هَمَّ فَجْرُ الحَيَاةِ بِالإِدْبَارِ … فَإِذَا مَرَّ فهْيَ فِي الآثَارِ
وَالصَّبا كَالكرَى نَعِيمٌ وَلَكِنْ … يَنْقَضِي وَالفَتَى غَيْرُ دَارِي
يغْنَمُ المَرْءُ عَيْشَهُ فِي صِبَاهُ … فَإِذَا بَانَ عَاشَ بِالتِّذْكَارِ
إِيهِ آثَارَ بَعْلَبَكَّ سَلاَمٌ … بَعْدَ طولِ النَّوَى وَبُعْدِ المَزَارِ
وَوُقِيتِ العَفَاءَ مِنْ عَرَصَاتٍ … مُقْوِيَاتٍ أَوَاهِلٍ بِالفَخَارِ
ذَكَرِيني طُفُولَتِي وَأَعِيدِي … رَسْمَ عَهْدٍ عَنْ أَعْيُنِي مُتَوَارِي
مُسْتَطَابِ الحَالَيْنِ صَفْواً وَشَجْواً … مُسْتَحَبٍ فِي النَّفْعِ وَالإِضْرَارِ
يَومَ أَمْشِي عَلَى الطُّلُولِ السْوَاجِي … لا افْتِرَارٌ فِيهِنَّ إِلاَّ افْتِرَارِي
نَزِقاً بَيْنَهُنَّ غِرّاً لَعُوباً … لاَهِياً عَنْ تَبَصُّرٍ واعْتِبَارِ
مُسْتَقِلاًّ عَظِيمَهَا مُسْتَخِفّاً … مَا بِهَا مِنْ مَهَابَةٍ وَوَقارِ
يَوْمَ أَخْلو بِهِنْدَ تَلْهُو وَنَزْهُو … وَالهَوَى بَيْنَنَا أَلِيفٌ مُجَارِي
كَفَرَاشِ الرَّيَاضِ إِذْ يَتَبَارَى … مَرَحاً مَا لَهُ مِنِ اسْتِقْرَارِ
نَلْتَقِي تَارَةً وَنَشْرُدُ أُخْرَى … كُلُّ تِرْبٍ فِي مَخْبَإٍ مُتَدَارِي
فإِذا البُعْدُ طالَ طَرْفةَ عَيْنٍ … حَثَّنا الشَّوْق مُؤْذِناً بِالبِدَارِ
وَعِدَادَ اللِّحَاظِ نَصْفُو وَنشْقى … بِجِوارٍ فَفُرْقةٍ فَجِوَارِ
لَيْسَ فِي الدَّهْرِ مَحْضُ سَعْدٍ وَلَكِنْ … تَلِدُ السَّعْدَ مِحْنَةُ الأَكْدَارِ
كُلَّمَا نَلْتَقِي اعْتَنَقْنَا كَأَنَّا … جِدُّ سَفْرٍ عَادُوا مِنَ الأسْفَارِ
قُبُلاَتٌ عَلَى عَفَافٍ تُحَاكِي … قُبُلاَتِ الأَنْدَاءِ وَالأَسْحَارِ
وَاشْتِبَاكٌ كَضَمِّ غُصْنٍ أَخَاهُ … وَكَلَثْمِ النُّوَّارِ لِلنُّوَّارِ
قَلْبُنَا طَاهِرٌ وَلَيْسَ خَليِّاً … أَطْهَرُ الحُبِّ فِي قُلوبِ الصِّغَارِ
كَان ذَاكَ الهَوَى سَلاَماً وَبَرْداً … فَاغْتدَى حِينَ شبَّ جَذْوَةَ نَارِ
حَبَّذَا هِنْدُ ذِلكَ العَهْدُ لَكِنْ … كُلُّ شَيءٍ إِلَى الرَّدَى وَالبَوَارِ
هَدَّ عَزْمِي النَّوَى وَقَوَّضَ جِسْمِي … فَدَمَارٌ يَمْشِي بِدَارِ دَمَارِ
خِرَبٌ حَارَتِ الْبَرِيَّةُ فِيهَا … فتْنة السَّامِعِينَ وَالنُّظارِ
مُعْجِزَاتٌ مِنَ البِنَاءِ كِبَارٌ … لأُنَاسٍ مِلْءَ الزَّمَانِ كِبَارِ
أَلْبَسَتْهَا الشُّموسُ تَفْوِيفَ دُرٍ … وَعَقِيقٍ عَلَى رِدَاءِ نُضَارِ
وَتَحَلَّتْ مِنَ اللَّيالِي بِشَامَا … تٍ كَتَنْقِيطِ عَنْبَرٍ فِي بَهَارِ
وَسَقاهَا النَّدَى رَشَاشَ دُمُوعٍ … شَرِبَتْهَا ظَوَامِيءَ الأَنْوَارِ
زَادَهَا الشَّيْبُ حُرْمَةً وَجَلاَلاً … تَوَّجَتْهَا بِهِ يَدُ الأَعْصَارِ
رُبَّ شَيْبٍ أَتَمَّ حُسْناً وَأَوْلَى … وَاهِنَ العَزْمِ صَوْلَةَ الْجَبَّارِ
مَعْبَدٌ لِلأَسْرَارِ قَامَ وَلَكِنْ … صُنْعُهُ كَانَ أَعْظَمَ الأَسْرَارِ
مِثَّلَ القَوْمُ كُلَّ شَيءٍ عَجِيبٍ … فِيهِ تَمْثِيلَ حِكْمَةٍ وَاقْتِدَارِ
صَنَعُوا مِنْ جَمَادِهِ ثَمَراً يُجْنَى … وَلَكِنْ بِالعَقْلِ وَالأَبْصَارِ
وَضُرُوباً مِنْ كُلِّ زَهْرٍ أَنِيقٍ … لَمْ تَفُتْهَا نَضَارَةُ الأَزْهَارِ
وَشُمُوساً مُضِيئَةً وَشِعَاعاً … بَاهِرَاتٍ لَكِنَّهَا مِنْ حِجَارِ
وَطُيُوراً ذَوَاهِباً آيِبَاتٍ … خَالِدَاتِ الغَدُوِّ وَالإِبْكَارِ
فِي جِنَانٍ مُعَلَّقَاتٍ زَوَاهٍ … بِصُنُوفِ النُّجُومِ وَالأَنْوَارِ
وَأُسُوداً يُخْشَى التَّحَفزُ مِنْهَا … وَيَرُوعُ السَّكُوتُ كَالتَّزْآرِ
عَابِسَاتِ الوُجُوهِ غَيْرَ غِضَابٍ … بَادِيَاتِ الأَنْيَابِ غَيْرَ ضَوَارِي
فِي عَرَانِينِهَا دُخَانٌ مُثَارٌ … وَبِأَلْحَاظِهَا سُيُولُ شَرَارِ
تِلْكَ آيَاتُهُمْ وَمَا بَرِحَتْ فِي … كُلِّ آنٍ رَوَائِعَ الزُّوَّارِ
ضَمَّهَا كُلَّهَا بَدِيعُ نِظَامٍ … دَقَّ حَتَّى كَأَنَّهَا فِي انْتِثَارِ
فِي مَقَامٍ لِلحُسْنِ يُعْبَدُ بَعْدَ … العَقْلِ فِيهِ وَالعَقْلُ بَعْدَ الْبَارِي
مُنْتَهَى مَا يُجَادُ رَسْماً وَأَبْهَى … مَا تَحُجُّ الْقُلُوبُ فِي الأَنْظَارِ
أَهْلَ فِينيقِيا سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ … يَوْمَ تَفْنَى بَقِيَّةُ الأَدْهَارِ
لَكُمُ الأَرْضُ خَالِدِينَ عَلَيْهَا … بِعَظِيمِ الأَعْمَالِ وَالآثَارِ
خُضْتُمُ البَحْرَ يَوْمَ كَانَ عَصِيّاً … لَمْ يُسَخَّرْ لِقُوَّةٍ مِنْ بُخَارِ
وَرَكِبْتُمْ مِنْهُ جَوَاداً حَرُوناً … قَلِقاً بِالمُمَرَّسِ المِغْوَارِ
إِنْ تَمَادَى عَدْواً بِهِمْ كَبَحُوهُ … وَأَقَالُوهُ إِنْ كَبَا مِنْ عِثَارِ
وَإِذَا مَا طَغَى بِهِمْ أَوْشَكُوا أَنْ … يَأْخُذُوا لاَعبِينَ بِالأَقْمَارِ
غَيْرُ صَعْبٍ تَخْلِيدُ ذِكْرٍ عَلَى الأَرْ … ضِ لِمَنْ خَلَّدُوهُ فَوْقَ البِحَارِ
شَيَّدُوهَا لِلشَّمْسِ دَارَ صَلاَةٍ … وَأَتَمِّ الرُّومَانُ حَلْيَ الدَّارِ
هُمْ دُعَاةُ الفَلاَحِ فِي ذلِكَ … العَصْرِ وَأَهْلُ العُمْرَانِ فِي الأَمْصَارِ
نَحَتُوا الرَّاسِيَاتِ تَحْتَ صُخُورٍ … وَأَبَانُوا دَقَائِقَ الأَفْكَارِ
وَأَجَادُوا الدمَى فَجَازَ عَلَيْهِمْ … أَنَّهَا الآمِرَاتُ فِي الأَقْدَارِ
سَجَدُوا لِلَّذِي هُمُ صَنَعُوهُ … سَجَدَاتِ الإِجْلاَلِ وَالإِكْبَارِ
بَعْدَ هَذَا أَغَايَةٌ فَتُرَجَّى … لِتَمَامٍ أَمْ مَطْمَعٌ فِي افْتِخارِ
نَظَرَتْ هِنْدُ حُسْنَهُنَّ فَغَارَتْ … أَنْتِ أَبْهَى يَا هِنْدُ مِنْ أَنْ تَغَارِي
كُلُّ هَذِي الدُّمَى الَّتِي عَبَدُوهَا … لَكِ يَا رَبَّةَ الجَمَالِ جَوَارِي