هل فى الزمانِ لنا حُكمٌ فنشترِطُ ؟ – محمود سامي البارودي
هل فى الزمانِ لنا حُكمٌ فنشترِطُ ؟ … أَمْ تِلْكَ أُمْنِيَّة ٌ فِي طَيِّهَا قَنَطٌ
نبكى على غيرِ شئ ، ثمَّ يُضحكنا … مَا لَيْسَ فِيهِ لَنَا بُقْيَا فَنَخْتَلِطُ
وَكَيْفَ نَرْجُو من الأَيَّامِ عَافِيَة ً … وَصِحَّة ُ الْمَرْءِ مَقْرُونٌ بِهَا السَّقَطُ؟
نَرْعَى مِنَ الدَّهْرِ غَيْثاً نَبْتُهُ أَسَفٌ … للرَّائدينَ، وَرَوْضاً زَهْرُهُ شَطَطُ
فلا يغرَّنكَ من دهرٍ بشاشتهُ … فَإِنَّمَا هُوَ بِشْرٌ تَحْتَهُ سخطُ
لاَ يُدْرِكُ الْغَايَة َ الْقُصْوَى سِوَى رَجُلٍ … ثَبْتِ الْعَزِيمَة ِ مَاضٍ حَيْثُ يَنْخَرِطُ
إن مسَّهُ الضَّيمُ ناجى السَّيفَ مُنتصراً … أو همَّهُ الأمرُ لم يعلق بهِ الثبطُ
فَاقْذِفْ بِنَفْسِكَ في أَقْصَى مَطَالِبِها … إِنَّ النَّجَاحَ بِسَعْيِ الْمَرْءِ مُرْتَبَطُ
قد يظفرُ الفاتكُ الألوى بِحاجتهِ … وليسَ يُدركها الهيَّابة ُ الخَلِطُ
وَإِنْ شَأَتْكَ الْمُنَى فَاقْنَعْ بِأَقْرَبِها … فَلَيْسَ في كُلِّ حِينٍ يُدْرَكُ الْوَسَطُ
لاَ تَعْفُلَنَّ إِذَا أُمْنِيَّة ٌ عَرَضَتْ … فَإِنَّمَا الْعَيْشُ في هَذَا الْوَرَى لَقَطُ
إِنِّي وإِنْ كَانَتْ الأَيَّامُ قَدْ أَخَذَتْ … مِنِّى ، وأخنى على َّ الضَّعفُ والشَّمطُ
فقد أذوذُ السَّبنتى عن فريستهِ … وَأَفْجَأُ الْبَطَلَ الْحَامِي فَأَخْتَبِطُ
وَأَصْدَعُ الْجَيْشَ وَالْفُرْسَانُ مِنْ مَرَحٍ … تَحْتَ الْعَجاجِ بِأَطْرَافِ الْقَنَا نُخُطُ
فما بِنَصلى إن لاقى ضريبتهِ … نَكلٌ ، ولا فى جَفيرى أسهُم مُرُطُ
وَرُبَّ يَوْمٍ طَوِيلِ الْعُمْرِ قَصَّرَهُ … جَرْيُ السَّوَابِقِ والْوَخَّادَة ُ النُّشُطُ
كأنَّما الوحشُ من تلهابِ جمرتهِ … مُبدَّداً تحتَ أشجارِ الغضى خبَطُ
تَرى بِهِ الْقَوْمَ صَرْعَى لاَ حَرَاكَ بِهِمْ … كَأَنَّهُمْ مِنْ عَتِيقِ الْخَمْرِ قَدْ سَقَطُوا
وَلَيْلَة ٍ ذَاتِ تَهْتَانٍ وَأَنْدِيَة ٍ … كأنَّما البرقُ فيها صارمٌ سلطُ
لفَّ الغمامُ أقاسيها بِبُردتهِ … وَانْهَلَّ في حَجْرَتَيْهَا وَابِلٌ سَبِطُ
بَهْمَاءَ لاَ يَهْتَدِي السَّارِي بِكَوْكَبِهَا … مِنَ الْغَمَامِ، وَلاَ يَبْدُو بِها نَمَطُ
يَكَادُ يَجْهَلُ فِيها الْقَوْمُ أَمْرَهُمُ … لَوْلاَ صَهِيلُ جِيادِ الْخَيْلِ وَاللَّغَطُ
يَطْغَى بِها الْبَرْقُ أَحْيَاناً، فَيَزْجُرُهُ … مُخْرَنْطِمٌ زَجِلٌ مِنْ رَعْدِهَا خَمِطُ
كأنَّما البرقُ سَوطٌ ، والحيا نُجُبٌ … يَلُوحُ في جِسْمِها مِنْ مَسِّهِ حَبَطُ
كأنهُ صارمٌ يَرفضُّ من علقٍ … بالأفقِ يغمدُ أحياناً ويُخترطُ
مَزَّقتُ جِلبابها بالخيلِ طالعة ً … مِثلَ الحمائمِ فى أجيادِها العلطُ
وَقَدْ تَخَلَّلَ خَيْطُ النُّورِ ظُلْمَتَهَا … كَمَا تَخَلَّلَ شَعْرَ اللِّمَّة ِ الْوَخَطُ
كأنَّها وصديعُ الفجرِ يَصدعُها … من جانبٍ أدهَمٌ قد مسَّهُ نبط
ومَربَعٍ لِنسيمِ الفَجرِ هينمة ٌ … فِيهِ، وَلِلطَّيْرِ في أَرْجَائِهِ لَغَطُ
كأنَّما القطرُ دُرٌّ فى جوانبهِ … يَكَادُ مِنْ صَدَفِ الأَزْهارِ يُلْتَقَطُ
وَلِلنَّسِيمِ خِلالَ النَّبْتِ غَلْغَلَة ٌ … كَمَا تَغَلْغَلَ وَسْطَ اللِّمَّة ِ الُمُشُطُ
وَالرِّيحُ تَمْحُو سُطُوراً، ثُمَّ تُثْبِتُهَا … فى النَهرِ ، لا صِحَّة ٌ فيها ولا غَلَطُ
وَلِلسَّماءِ خُيُوطٌ غَيْرُ وَاهِيَة ٍ … تَكَادُ تُجْمَعُ بِالأَيْدِي فَتُرْتَبَطُ
كأنَّها وَأكفُّ الريحِ تضربُها … سلوكُ عِقدٍ تواهَتْ ، فهى َ تَنخرِطُ
فالضوءُ مُحتبسٌ ، والماءُ مُنطلِقٌ … وَالْجَوُّ مُنْقَبِضٌ، وَالظِّلُّ مُنْبَسِطُ
لُذْنَا بِأَطْرافِهِ وَالطَّيْرُ عَاكِفَة ٌ … عليهِ ، والنورُ بِالظلماءِ مُختلطُ
فِي فِتْيَة ٍ رَضِعُوا ثَدْيَ الْوِفَاقِ، فَمَا … فيهِمْ إذا ما انتشوا جَورٌ ولا شططُ
تَحَالَفُوا في صَفَاءِ الْوُدِّ، وَاجْتَمَعُوا … على الوفاءِ طَوالَ الدَهرِ ، واشترطوا
كَالْغَيْثِ إِنْ وَهَبُوا، وَاللَّيْثِ إِنْ وَثَبُوا … وَالْمَاءِ إِنْ عَدَلُوا، وَالنَّار إِنْ قَسَطُوا
تكشَّفَ الدهرُ عنهم بعدَ غمتهِ … كما تكشَّف عن مكنونهِ السفطُ
مِيلٌ بِأبصارِهم نَحوى لِيستمعوا … قَوْلِي، وَكُلٌّ لأَمرِي طَائِعٌ نَشِطُ
إِنْ سِرْتُ سَارُوا، وإِنْ أَصْعَدْ إِلَى نَشَزٍ … كانوا صُعوداً ، وإن أهبِط بِهم هبطوا
يَمْشُونَ حَوْلي، كَمَا يَمْشِيِ الْقَطَا بَدَداً … فَإِنْ مَضَى بَقَطٌ مِنْهُمْ أَتَى بَقَطُ
أَنْ يَكْنُفُونيَ مِنْ حَوْلِي فَلاَ عَجَبٌ … لاَ يَسْقُطُ الطَّيْرُ إِلاَّ حَيْثُ يَلْتَقِطُ
نمشى بهِ بينَ أشجارٍ كأنَّ على … أَفْنَانِها مِنْ بُرُودِ الْيَمْنَة ِ الرِّيَطُ
مِثْلِ الطَّوَاوِيسِ فِي أَذْنَابِها عَجَبٌ … لِلنَّاظِرِينَ، وَفِي أَجْيَادِهَا عَنَطُ
كأنَّهنَّ جمالاتٌ مُوقَّرة ٌ … تَمورُ موراً على أثباجِها الغبُطُ
وَلِلْفَوَاخِتِ في أَفْنَانِها هَزَجٌ … قد ماجَ من لَحنهنَّ السَّهلُ والفُرطُ
خُضْرُ الْجَنَاحَيْنِ وَالأَطْوَاقِ، تَحْسَبُهَا … أَطْفَالَ مَلْكٍ لَهَا مِنْ سُنْدُسٍ قُمُطُ
حَتَّى إِذَا حَلَّ ضَاحِي الْيَوْمِ حَبْوَتَهُ … وكادت الشَّمسُ بينَ الغربِ تَنهَبطُ
رُحنا نَجرُّ ذُيولَ العِزِّ ضافية ً … وَكُلُّنَا بِنَعِيمِ الْعَيْشِ مُغْتَبِطُ
يومٌ منَ الدَّهرِ أهوى لَو بذَلتُ لهُ … ما شاءَ فى مِثلهِ لو كانَ يشترِطُ