هذه البلاد شقة مفروشة ! – نزار قباني

هـذي البـلادُ شـقَّـةٌ مَفـروشـةٌ ، يملُكُها شخصٌ يُسَمّى عَنترَهْ .

يسـكَرُ طوالَ الليل عنـدَ بابهـا ، و يجمَعُ الإيجـارَ من سُكّـانهـا ..

وَ يَطلُبُ الزواجَ من نسـوانهـا ، وَ يُطلقُ النـارَ على الأشجـار .

و الأطفـال . و العيـون . و الأثـداء .والضفـائر المُعَطّـرَهْ …

هـذي البـلادُ كلُّهـا مَزرَعَـةٌ شخصيّـةٌ لعَنـترَهْ .

سـماؤهـا .. هَواؤهـا . نسـاؤها . حُقولُهـا المُخضَوضَرَهْ .

كلُّ البنايـات – هنـا – يَسـكُنُ فيها عَـنتَرَهْ .

كلُّ الشـبابيك علَيـها صـورَةٌ لعَـنتَرَهْ .

كلُّ الميـادين هُنـا ، تحمـلُ اسـمَ عَنتَرَهْ .

عَنتَرَةٌ يُقـيمُ فـي ثيـابنـا . فـي ربطـة الخـبز .

و فـي زجـاجـة الكُولا ، وَ فـي أحـلامنـا المُحتَضـرَهْ …

مـدينـةٌ مَهـجورَةٌ مُهَجّـرَهْ .

لم يبقَ – فيها – فأرةٌ ، أو نملَـةٌ ، أو جدوَلٌ ، أو شـجَرَهْ .

لاشـيء – فيها – يُدهشُ السّـياح إلاّ الصـورَةُ الرسميّـة المُقَرَّرَهْ ..

للجـنرال عَنتَرَهْ .

فـي عرَبـات الخَـسّ ، و البـطّيخ .

في البـاصـات ، فـي مَحطّـة القطـار ، فـي جمارك المطـار..

فـي طوابـع البريـد ، في ملاعب الفوتبول ، فـي مطاعم البيتزا .

و فـي كُلّ فئـات العُمـلَة المُزَوَّرَهْ .

فـي غرفَـة الجلوس . فـي الحمّـام .. فـي المرحاض ..

فـي ميـلاده السَـعيد ، فـي ختّـانه المَجيـد ..

فـي قُصـوره الشـامخَـة ، البـاذخَـة ، المُسَـوَّرَهْ .

مـا من جـديدٍ في حيـاة هـذي المـدينَـةُ المُسـتَعمَرَهْ .

فَحُزنُنـا مُكّرَّرٌ ، وَمَوتُنـا مُكَرَّرٌ ،ونكهَةُ القهوَة في شفاهنـا مُكَرَّرَهْ .

فَمُنذُ أَنْ وُلدنـا ،و نَحنُ مَحبوسُونَ فـي زجـاجة الثقافة المُـدَوَّرَهْ .

وَمُـذْ دَخَلـنَا المَدرَسَـهْ ،و نحنُ لانَدرُسُ إلاّ سيرَةً ذاتيّـةً واحـدَهً .

تـُخبرنـا عـن عَضـلات عَـنتَرَهْ .

وَ مَكـرُمات عَنتَرَهْ . وَ مُعجزات عَنتَرَهْ .

ولا نرى في كلّ دُور السينما إلاّ شريطاً عربيّاً مُضجراً يلعبُ فيه عَنتَرَهْ .

لا شـيء – في إذاعَـة الصـباح – نهتـمُّ به .

فـالخـبَرُ الأوّلُ – فيهـا – خبرٌ عن عَنترَهْ .

و الخَـبَرُ الأخـيرُ – فيهـا – خَبَرٌ عن عَنتَرَهْ .

لا شـيءَ – في البرنامج الثـاني – سـوَى :

عـزفٌ – عـلى القـانون – من مُؤلَّفـات عَنتَرَهْ .

وَ لَـوحَـةٌ زيتيّـةٌ من خـربَشات عَنتَرَهْ …

و بـاقَـةٌ من أردَئ الشـعر بصـوت عـنترَهْ .

هذي بلادٌ يَمنَحُ المُثَقَّفونَ – فيها – صَوتَهُم ،لسَـيّد المُثَقَّفينَ عَنتَرَهْ .

يُجَمّلُونَ قـُبحَهُ ، يُؤَرّخونَ عصرَهُ ، و ينشُرونَ فكرَهُ .

و يَقـرَعونَ الطبـلَ فـي حـروبـه المُظـفَّرَهْ .

لا نَجـمَ – في شـاشَـة التلفـاز – إلاّ عَنتَرَهْ .

بقَـدّه المَيَّـاس ، أو ضحكَـته المُعَبـرَهْ .

يـوماً بزيّ الدُوق و الأمير . يـوماً بزيّ الكادحٍ الفـقير .

يـوماً عـلى طـائرَةٍ سَـمتيّـةٍ .. يَوماً على دبّابَة روسيّـةٍ .

يـوماً عـلى مُجَـنزَرَهْ .

يـوماً عـلى أضـلاعنـا المُكَسَّـرَهْ .

لا أحَـدٌ يجـرُؤُ أن يقـولَ : ” لا ” ، للجـنرال عَنتَرَهْ .

لا أحَـدٌ يجرؤُ أن يسـألَ أهلَ العلم – في المدينَة – عَن حُكم عَنتَرَهْ .

إنَّ الخيارات هنا ، مَحدودَةٌ ،بينَ دخول السَجن ،أو دخول المَقبَرَهْ ..

لا شـيء فـي مدينَة المائة و خمسين مليون تابوت سوى .

تلاوَةُ القُرآن ، و السُرادقُ الكبير ، و الجنائز المُنتَظرَهْ .

لا شيء ،إلاَّ رجُلٌ يبيعُ – في حقيبَةٍ – تذاكرَ الدخول للقبر ، يُدعى عَنتَرهْ .

عَنتَرَةُ العَبسـيُّ . لا يَترُكنـا دقيقةً واحدَةً .

فـ مَرّةَ ، يـأكُلُ من طعامنـا . و َمـرَّةً يشرَبُ من شـرابنـا .

وَ مَرَّةً يَندَسُّ فـي فراشـنا . وَ مـرَّةً يزورُنـا مُسَـلَّحاً .

ليَقبَضَ الإيجـار عن بلادنـا المُسـتأجَرَهْ