مَحَا الْبَيْنُ مَا أَبْقَتْ عُيُونُ الْمَهَا مِنِّي – محمود سامي البارودي

مَحَا الْبَيْنُ مَا أَبْقَتْ عُيُونُ الْمَهَا مِنِّي … فشبتُ وَ لمْ أقضِ اللبانة َ منْ سنى

عناءٌ ، وَ بأسٌ ، وَ اشتياقٌ ، وَ غربة ٌ … ألاَ ، شدَّ ما ألقاهُ في الدهرِ منْ غبنِ

فإنْ أكُ فارقتُ الديارَ فلي بها … فؤادٌ أضلتهُ عيونُ المها مني

بَعَثْتُ بِهِ يَوْمَ النَّوَى إِثْرَ لَحْظَة ٍ … فَأَوْقَعُهُ الْمِقْدَارُ فِي شَرَكِ الْحُسْنِ

فَهَلْ مِنْ فَتى ً فِي الدَّهْرِ يجْمَعُ بَيْنَنَا؟ … فَلَيْسَ كِلاَنَا عَنْ أَخِيهِ بِمُسْتَغْنِ

وَلَمَّا وَقَفْنَا لِلْوَدَاعِ، وأَسْبَلَتْ … مدامعنا فوقَ الترائبِ كالمزنِ

أهبتُ بصبري أنْ يعودَ ، فعزني … وَ ناديتُ حلمي أنْ يثوبَ ، فلمْ يغنِ

وَ لمْ تمضِ إلاَّ خطرة ٌ ، ثمَّ أقلعتْ … بِنَا عَنْ شُطُوطِ الْحَيِّ أَجْنِحَة ُ السُّفْنِ

فَكَمْ مُهْجَة ٍ مِنْ زَفْرَة ِ الْوَجْدِ فِي لَظى ً … وَكَمْ مُقْلَة ٍ مِنْ غَزْرَة ِ الدَّمْعِ فِي دَجْنِ

وَمَا كُنْتُ جَرَّبْتُ النَّوَى قَبْلَ هَذِهِ … فَلَمَّا دَهَتْنِي كِدْتُ أَقْضِي مِنَ الْحُزْنِ

وَلَكِنَّنِي رَاجَعْتُ حِلْمِي، وَرَدَّنِي … إِلَى الْحَزْمِ رَأْيٌ لا يَحُومُ عَلَى أَفْنِ

وَلَوْلاَ بُنَيَّاتٌ وَشِيبٌ عَوَاطِلٌ … لما قرعتْ نفسي على فائتٍ سنى

فيا قلبُ صبراً إنْ جزعتَ ؛ فربما … جرتْ سنحاً طيرُ الحوادثِ باليمنِ

فقدْ تورقُ الأغصانُ بعدَ ذبولها … وَيَبْدُو ضِيَاءُ الْبَدْرِ فِي ظُلْمَة ِ الْوَهْنِ

وَ أيُّ حسامٍ لمْ تصبهُ كهامة ٌ … وَلَهْذَمُ رُمْحٍ لاَ يُفَلُّ مِنَ الطَّعْنِ؟

وَمَنْ شَاغَبَ الأَيَّامَ لانَ مَرِيرُهُ … وَ أسلمهُ طولُ المراس إلى الوهنِ

وَمَا الْمَرْءُ فِي دُنْيَاهُ إِلاَّ كَسَالِكٍ … مناهجَ لا تخلو منَ السهلِ وَ الحزنِ

فإنْ تكنِ الدنيا تولتْ بخيرها … فَأَهْوِنْ بِدُنْيَا لاَ تَدُومُ عَلى فَنِّ

تحملتُ خوفَ المنَّ كلَّ رزيئة ٍ … وَ حملُ رزايا الدهرِ أحلى منَ المنَّ

وَعَاشَرْتُ أَخْدَاناً، فَلَمَّا بَلَوْتُهُمْ … تَمَنَّيْتُ أَنْ أَبْقَى وَحِيداً بِلاَ خِدْنِ

إذا عرفَ المرءُ القلوبَ وَ ما انطوتْ … عليهِ منَ البغضاءِ عاشَ على ضغنِ

وَأَيُّ حَيَاة ٍ لاِمْرِىء ٍ بَيْنَ بَلْدَة ٍ … وَتَسْمَعُ أُذْنِي مَا تَعَافُ مِنَ اللَّحْنِ

وَكَيْفَ مُقَامِي بَيْنَ أَرْضٍ أَرَى بِهَا … منَ الظلمِ ما أخنى على الدارِ وَ السكنِ

فسمعُ أنينِ الجورِ قدْ شاكَ مسمعي … و رؤية ُ وجهِ الغدرِ حلَّ عرا جفني

وَ صعبٌ على ذي اللبَّ رئمانُ ذلة ٍ … يَظَلُّ بِهَا فِي قَوْمِهِ وَاهِيَ الْمَتْنِ

إذا المرءُ لمْ برمِ الهناة َ بمثلها … تخطى إليهِ الخوفُ منْ جانبِ الأمن

فَلاَ تَعْتَرِفْ بِالذُلِّ خِيفَة َ نِقْمَة ٍ … فَعَيْشُ الْفَتَى في الذُّلِّ أَدْهَى مِنَ السِّجْنِ

وَكُنْ رَجُلاً، إِنْ سِيمَ خَسْفاً رَمَتْ بِهِ … حَمِيَّتُهُ بَيْنَ الصَّوَارِمِ وَاللُّدْنِ

فلا خيرَ في الدنيا إذا المرءُ لمْ يعشْ … مهيباً ، تراهُ العينُ كالنارِ في دغن

وَ لا ترهبِ الأخطارَ في طلبِ العلا … فَمَنْ هَابَ شَوْكَ النَّحْلِ عَادَ، وَلَمْ يَجْنِ

وَ لولا معاناة ُ الشدائدِ ما بدتْ … مزايا الورى بينَ الشجاعة ِ وَ الجبنِ

فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي الْمُدْنِ مَا شِئْتَ مِنْ قِرى ً … فَأَصْحِرْ؛ فَإِنَّ الْبِيدَ خَيْرٌ مِنَ الْمُدْنِ

صَحَارٍ يَعِيشُ الْمَرْءُ فِيهَا بِسَيْفِهِ … شَدِيدَ الْحُمَيَّا غَيْرَ مُغْضٍ عَلَى دَمْنِ

وَ أيُّ حياة ٍ لامرئٍ بينَ بلدة ٍ … يَطَلُّ بِهَا بَيْنَ الْعَوَاثِنِ وَالدَّخْنِ؟

لعمري لكوخٌ منْ ثمامٍ … أَحَبُّ إِلَى قَلْبِي مِنَ الْبَيْتِ ذِي الْكِنِّ

و أطربُ منْ ديكٍ يصيحُ بكوة ٍ … أراكية ٌ تدعو هديلاً على غصنِ

وَ أحسنُ منْ دارٍ وَ خيمٍ هواؤها … مَبِيتُكَ مِنْ بُحْبُوحَة ِ الْقَاعِ فِي صَحْنِ

تَرَى كُلَّ شَيْءٍ نُصْبَ عَيْنَيْكَ مَاثِلاً … كأنكَ منْ دنياكَ في جنتيْ عدنِ

تدورُ جيادُ الخيلِ حولكَ شرباً … تجاذبُ أطرافَ الأعنة ِ كالجنَّ

إذا سمعتْ صوتَ الصريخِ تنصبتْ … فتدركُ ما لا تبصرُ العينُ بالأذنِ

فتلكَ لعمري عيشة ٌ بدورية ٌ … موطأة ُ الأكنافِ ، راسخة ُ الركن

وَمَا قُلْتُ إِلاَّ بَعْدَ عِلْمٍ أَجَدَّ لِي … يقيناً نفى عني مراجعة َ الظنَّ

فقدْ ذقتُ طعمَ الدهرِ حتى لفظتهُ … وَعَاشَرْتُ حَتَّى قلْتُ لابْنِ أَبِي: دَعْنِي

وَلَوْلاَ أَخٌ أَحْمَدْتُ فِي الْوُدِّ عَهْدَهُ … على حدثانِ الدهرِ ما كنتُ أستثني

وَرُبَّ بَعِيدِ الدَّارِ يُصْفِيكَ وُدَّهُ … وَمُقْتَرِبٍ يَجْنِي عَلَيْكَ وَلَمْ تَجْنِ

وَ ما الودُّ في القربى وَ إنْ هيَ أوجبتْ … وَ لكنهُ في الطبعِ ، وَ الشكلِ ، وَ الوزنِ

إذا لمْ يكنْ بينَ الوديدينِ خلة ٌ … فلا أدبٌ يجدى ، وَ لاَ نسبٌ يدنى

فَذَاكَ أَخٌ لَوْلاَهُ أَنْكَرْتُ كُلَّ مَا … سَمِعْتُ بِهِ عَنْ «أَحْنَفِ» الْحِلْمِ، أَوْ «مَعْنِ»

فَإِنْ لَمْ أُصَرِّحْ بِاسْمِهِ خَوْفَ حَاسِدٍ … يَنُمُّ علَيْهِ، فَهْوَ يَعْلَمُ مَنْ أَعْنِي

على َ إنَّ ذكراهُ وَ إنْ كانَ نائياً … سَمِيرُ فُؤَادِي في الإِقَامَة ِ وَالظَّعْنِ

أَنُوحُ لِبُعْدِي عَنْهُ حُزْناً وَلَوْعَة ً … كمانا من شوقٍ ” جميلٌ ” عاى َ ” بثنِ “

فَمَنْ لِي بِه خِلاً كَرِيماً نِجَارُهُ؟ … فقدْ سئمتْ نفسي معاشرة َ الهجنِ

تجاذبني نفسي إليهِ ، وَ دوننا … أهاويلُ ملتجَّ الغواربِ مستنَّ

لَعَلَّ يَدَ الأَيَّامِ تَسْخُو بِلُقْيَة ٍ … أَرَاهُ بِهَا بَعْدَ الْكَزَازَة ِ وَالضَّنِّ

وَإِنِّي ـ وَإِنْ طَالَ الْمِطَالُ ـ لَوَاثِقٌ … بِرَحْمَة ِ رَبِّي؛ فَهْوَ ذُو الطَّوْلِ وَالْمَنِّ

كلمات: اسعد عبدالكريم

ألحان: طلال باغر

1987