مَا أَطْيَبَ الْعَيْشَ لَوْلاَ أَنَّهُ فَانِي – محمود سامي البارودي

مَا أَطْيَبَ الْعَيْشَ لَوْلاَ أَنَّهُ فَانِي … تَبْلَى النُّفُوسُ وَلاَ يَبْلَى الْجَدِيدَانِ

قَدْ كُنْتُ فِي غِرَّة ٍ، حَتَّى إِذَا انْقَشَعَتْ … أَبْقَتْ تَبَارِيحَ لاَ تَنْفَكُّ تَغْشَانِي

وَ شيبة ً كلسانِ الفجرِ ناطقة ً … بما طواهُ عنِ الإفشاءِ كتماني

أضحتْ قذى لعيونِ الغانياتِ ، وَ قدْ … كَانَتْ حِبَالَة َ أَبْصَارٍ وَأَذْهَانِ

كأنني لمْ أقدْ شعواءَ جافلة ً … وَلَمْ أَبِتْ بَيْنَ دَارَاتٍ وَنُدْمَانِ

وَلَمْ أَقُمْ فِي مَقَامَاتٍ وَأَنْدِيَة ٍ … شَتَّى الْهَوَى غَيْرَ رِعْدِيدٍ وَلاَ وَانِي

فَالْيَوْمَ أَصْبَحْتُ لاَ سَيْفِي بمُنْصَلِتٍ … على َ العدوَّ ، وَ لاَ قوسى بمرنانِ

لاَ أَذْكُرُ اللَّهْوَ إِلاَّ أَنْ تُذَكِّرَنِي … ورقاءَ تدعو هديلاً بينَ أغصانِ

إِنَّ الثَّلاَثِينَ وَالْخَمْسَ الَّتِي عَرَضَتْ … ثَنَتْ قُوَايَ وَفَلَّتْ غَرْبَ أَشْجَانِي

وَ خلفتني على ما كانَ منْ طربٍ … بَادِي الأَسَافَة ِ فِي قَوْمِي وَجِيرَانِي

وَكَانَ يَحْزُنُنِي شَيْبِي فَصِرْتُ أَرَى … أنَّ الذي بعدهُ أولى يإحزاني

وَهَوَّنَ الأَمْرَ عِنْدِي أَنَّ كُلَّ فَتَى … وَ إنْ تملأ منْ ماءِ الصبا فاني

يَا نَفْسُ لاَ تَذْهَبِي يَأْسَاً بِمَا كَسَبَتْ … يداكِ ؛ فاللهُ ذو منًّ وَ غفراني

يَعْفُو عَنِ الذَّنْبِ حَتَّى يَسْتَوِي كَرَماً … لديهِ ذو العملِِ المبررِ وَ الجاني

هوَ الذي جعلَ الأفلاكَ دائرة ً … وَ صورَ الخلقِ منْ إنس وَ من جانِ

و قدرَ الشمسَ تجرى في منازلها … وَ النجمَ وَ القمرَ الساري بحسبان

وَأَرْسَلَ الْغَيْثَ أَرْسَالاً بِرَحْمَتِهِ … وَأَنْبَتَ الأَرْضَ مِنْ حَبٍّ وَرَيْحَانِ

شبحانهُ ، جلَّ عنْ وصفٍ يحيطُ بهِ … وَكَيْفَ يُدْرِكُ وَصْفَ الدَّائِمِ الْفَانِي؟

لقدْ تفردَ في لاهوتِ قدرتهِ … فما لها أبداً في ملكهِ ثاني

وٌنما نحنُ نظريه كما سبقت … بهٍ الإرادة منْ وصفٍ وتبيانِ

كُلٌّ يَقُولُ عَلَى مِقْدَارِ فِطْنَتِه … وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْقَاصِي وَبِالدَّانِي

تَبَارَكَ اللَّهُ عَمَّا قِيلَ وابْتُدِعَتْ … في ذاتهِ منْ أضاليلٍ وَ بهتانِ

قدْ لفقوها أساطيراً محبرة ً … بِحِكْمَة ٍ ذَاتِ أَشْكَالٍ وَأَلْوَانِ

كأنهمْ قدْ أصابوا طرفة ً عجباً … أوْ جاءهمْ نبأٌ صدقٌ ببرهانِ

وَلَوْ تَكَشَّفَ هَذَا الأَمْرُ لاَرْتَدَعَت … مَعَاشِرٌ خَلَطُوا كُفْراً بِإِيمَانِ

يا ربَّ ؛ إنكَ ذو منٍّ وَ مغفرة ٍ … فَاسْتُرْ بِعَفْوِكَ زَلاَّتِي وَعِصْيَانِي

وَ لاَ تكلني إلى ما كانَ منْ عملى … فإنهُ سببٌ يفضي لحرماني