مغاني الشعب طيبا في المغاني – المتنبي

مَغَاني الشِّعْبِ طِيباً في المَغَاني … بمَنْزِلَةِ الرّبيعِ منَ الزّمَانِ

وَلَكِنّ الفَتى العَرَبيّ فِيهَا … غَرِيبُ الوَجْهِ وَاليَدِ وَاللّسَانِ

مَلاعِبُ جِنّةٍ لَوْ سَارَ فِيهَا … سُلَيْمَانٌ لَسَارَ بتَرْجُمَانِ

طَبَتْ فُرْسَانَنَا وَالخَيلَ حتى … خَشِيتُ وَإنْ كَرُمنَ من الحِرَانِ

غَدَوْنَا تَنْفُضُ الأغْصَانُ فيهَا … على أعْرافِهَا مِثْلَ الجُمَانِ

فسِرْتُ وَقَدْ حَجَبنَ الحَرّ عني … وَجِئْنَ منَ الضّيَاءِ بمَا كَفَاني

وَألْقَى الشّرْقُ مِنْهَا في ثِيَابي … دَنَانِيراً تَفِرّ مِنَ البَنَانِ

لهَا ثَمَرٌ تُشِيرُ إلَيْكَ مِنْهُ … بأشْرِبَةٍ وَقَفْنَ بِلا أوَانِ

وَأمْوَاهٌ تَصِلّ بهَا حَصَاهَا … صَليلَ الحَلْيِ في أيدي الغَوَاني

وَلَوْ كانَتْ دِمَشْقَ ثَنى عِنَاني … لَبِيقُ الثّرْدِ صِينيُّ الجِفَانِ

يَلَنْجُوجيُّ ما رُفِعَتْ لضَيْفٍ … بهِ النّيرانُ نَدّيُّ الدّخَانِ

تَحِلُّ بهِ عَلى قَلْبٍ شُجاعٍ … وَتَرْحَلُ منهُ عَن قَلبٍ جَبَانِ

مَنَازِلُ لمْ يَزَلْ منْهَا خَيَالٌ … يُشَيّعُني إلى النَّوْبَنْذَجَانِ

إذا غَنّى الحَمَامُ الوُرْقُ فيهَا … أجَابَتْهُ أغَانيُّ القِيانِ

وَمَنْ بالشِّعْبِ أحْوَجُ مِنْ حَمامٍ … إذا غَنّى وَنَاحَ إلى البَيَانِ

وَقَدْ يَتَقَارَبُ الوَصْفانِ جِدّاً … وَمَوْصُوفَاهُمَا مُتَبَاعِدانِ

يَقُولُ بشِعْبِ بَوّانٍ حِصَاني: … أعَنْ هَذا يُسَارُ إلى الطّعَانِ

أبُوكُمْ آدَمٌ سَنّ المَعَاصِي … وَعَلّمَكُمْ مُفَارَقَةَ الجِنَانِ

فَقُلتُ: إذا رَأيْتُ أبَا شُجاعٍ … سَلَوْتُ عَنِ العِبادِ وَذا المَكانِ

فَإنّ النّاسَ وَالدّنْيَا طَرِيقٌ … إلى مَنْ مَا لَهُ في النّاسِ ثَانِ

لَقد عَلّمتُ نَفسِي القَوْلَ فيهِمْ … كَتَعْليمِ الطّرَادِ بِلا سِنَانِ

بعَضْدِ الدّوْلَةِ امتَنَعَتْ وَعَزّتْ … وَلَيسَ لغَيرِ ذي عَضُدٍ يَدانِ

وَلا قَبضٌ على البِيضِ المَوَاضِي … وَلا حَطٌّ منَ السُّمْرِ اللّدَانِ

دَعَتْهُ بمَفْزَعِ الأعْضَاءِ مِنْهَا … لِيَوْمِ الحَرْبِ بِكْرٍ أوْ عَوَانِ

فَمَا يُسْمي كَفَنّاخُسْرَ مُسْمٍ … وَلا يَكْني كَفَنّاخُسرَ كَانِ

وَلا تُحْصَى فَضَائِلُهُ بظَنٍّ … وَلا الإخْبَارِ عَنْهُ وَلا العِيانِ

أُرُوضُ النّاسِ مِنْ تُرْبٍ وَخَوْفٍ … وَأرْضُ أبي شُجَاعٍ مِنْ أمَانِ

يُذِمّ على اللّصُوصِ لكُلّ تَجْرٍ … وَيَضْمَنُ للصّوَارِمِ كلَّ جَانِ

إذا طَلَبَتْ وَدائِعُهُمْ ثِقَاتٍ … دُفِعْنَ إلى المَحَاني وَالرِّعَانِ

فَبَاتَتْ فَوْقَهُنّ بِلا صِحابٍ … تَصِيحُ بمَنْ يَمُرُّ: ألا تَرَاني

رُقَاهُ كلُّ أبيَضَ مَشْرَفيٍّ … لِكُلّ أصَمَّ صِلٍّ أُفْعُوَانِ

وَمَا تُرْقَى لُهَاهُ مِنْ نَدَاهُ … وَلا المَالُ الكَريمُ مِنَ الهَوَانِ

حَمَى أطْرَافَ فارِسَ شَمّرِيٌّ … يَحُضّ على التّبَاقي بالتّفاني

بضَرْبٍ هَاجَ أطْرَابَ المَنَايَا … سِوَى ضَرْبِ المَثَالِثِ وَالمَثَاني

كأنّ دَمَ الجَماجِمِ في العَناصِي … كَسَا البُلدانَ رِيشَ الحَيقُطانِ

فَلَوْ طُرِحَتْ قُلُوبُ العِشْقِ فيها … لمَا خافَتْ مِنَ الحَدَقِ الحِسانِ

وَلم أرَ قَبْلَهُ شِبْلَيْ هِزَبْرٍ … كَشِبْلَيْهِ وَلا مُهْرَيْ رِهَانِ

أشَدَّ تَنَازُعاً لكَرِيمِ أصْلٍ … وَأشْبَهَ مَنظَراً بأبٍ هِجَانِ

وَأكثرَ في مَجَالِسِهِ استِمَاعاً … فُلانٌ دَقّ رُمْحاً في فُلانِ

وَأوّلُ رَأيَةٍ رَأيَا المَعَالي … فَقَدْ عَلِقَا بهَا قَبلَ الأوَانِ

وَأوّلُ لَفْظَةٍ فَهِمَا وَقَالا: … إغَاثَةُ صَارِخٍ أوْ فَكُّ عَانِ

وَكنْتَ الشّمسَ تَبهَرُ كلّ عَينٍ … فكَيفَ وَقَدْ بَدَتْ معَها اثنَتَانِ

فَعَاشَا عيشةَ القَمَرَينِ يُحْيَا … بضَوْئِهِمَا وَلا يَتَحَاسَدَانِ

وَلا مَلَكَا سِوَى مُلْكِ الأعَادي … وَلا وَرِثَا سِوَى مَنْ يَقْتُلانِ

وَكَانَ ابْنا عَدُوٍّ كَاثَرَاهُ … لَهُ يَاءَيْ حُرُوفِ أُنَيْسِيَانِ

دُعَاءٌ كالثّنَاءِ بِلا رِئَاءٍ … يُؤدّيهِ الجَنَانُ إلى الجَنَانِ

فَقد أصْبَحتَ منهُ في فِرِنْدٍ … وَأصْبَحَ منكَ في عَضْبٍ يَمَانِ

وَلَوْلا كَوْنُكُمْ في النّاسِ كانوا … هُرَاءً كالكَلامِ بِلا مَعَانِ