لَيْسَ أَمْرُ المُفَارِقِينَ كَأَمْرِي – خليل مطران

لَيْسَ أَمْرُ المُفَارِقِينَ كَأَمْرِي … أَنَا فِي وَحْشَةٍ بَقِيَّةَ عُمْرِي

كانَ لِي رُفْقَةٌ هُمُ العَيْشُ أَوْ … أَطْيَبُ مَا فِيه مِنْ مَتَاعِ الفِكْرِ

صَفْوَةٌ مِنْ نَوَابغِ العِلمِ وَالآ … دَابِ عَزَّ اجْتِمَاعُهَا فِي قُطْرِ

نَزَحُوا وَالزَّمَانُ حِرْصاً عَلَيْهِمْ … عَالِقٌ بَعْدَ كُلِّ عَيْنٍ بِإِثْرِ

كُلُّ يَوْمٍ نَشْرٌ لَهُمْ بَعْدَ طَيٍّ … كُلُّ يَوْمٍ طي لَهُمْ بَعْدَ نَشْرِ

وَتَمُرّ الأَيامُ بِي بَيْنَ تَجْديدِ … لِقَاءٍ وَبَيْنَ تَجْديد هَجْرِ

مَا بَقائِي بَعْدَ الأَحِبَّاءِ إِلاَّ … كَمُقامِ الغَرِيبِ فِي دَارِ أَسْرِ

إِنْ يَسُؤْنِي حِمَامُهُمْ فَعَزَائِي … أَنْ أَرَاهُم فِي النَّاسِ أَحْيَاءَ ذِكْرِ

بَقِيَ الشِّعْرُ حِقْبَةً تَحْتَ لَيْلٍ … أَعْقَبَتْهُ فِي مِصْرَ طَلْعَةُ فَجْرِ

جَاءَ سَامٍ فِيهَا طَلِيعَةَ خَيْرٍ … وَتَلاهُ الندَانِ شَوْقِي وَصَبْرِي

وأَتى حَافِظٌ فَكَان لِكُلٍّ … قِسْطَهُ فِي افْتِتِاحِ هَذَا العصرِ

أَيُّهَا الأَوْفِياءُ مِمًّنْ أَجَابُوا … دَاعِيَ البِرِّ بِابْنِ مِصْرَ الأَبَرِّ

شَاعِرُ النِّيلِ شَاعِرُ الشَّرْقِ … وَالتَّخْصيصُ بِالنِّيلِ شَامِلُ كُلَّ نَهْرِ

إِنْ يُمَجِّدْهُ قَوْمُهُ فَلَهُمْ مَجْدٌ … بِه جَازَ كُلَّ بَحْرٍ وَبَرِّ

بَارَكَ اللّهُ فِي مَسَاعِيكمُ الحُسْنَى … وَفِي ذلِكَ الشُّعُورِ الطُّهْرِ

لَيْسَ فِي أَجرِ مَا صنَعْتُمْ كَمَا تُو … لِيكُمُ النَّفْسُ مِنْ كَرِيمِ الأَجْرِ

يَا وَزِيراً أَهْدَى إِلى الضَّاد مَا شَا … ءَ لَهَا البَعْثُ مِنْ مَآثِرَ غُرِّ

كُلُّ أَمْرِ العِرْفَانِ مَا تَتَوَلَّى … وَعَلِيٌّ يُرْجَى لِكُلِّ الأَمْرِ

إِنْ تَكُنْ نَاصِرَ القَديمِ فَما … كُنْتَ ضَنِيناً عَلى الحَديثِ بِنَصْرِ

لَيْسَ شَأْنُ القَديمِ بِالنَّزْرِ فِي الفُصْحَى … وَشَأْنُ الحَديثِ لَيْسَ بِنَزْرِ

بَيْنَ فَرْعٍ وَبَيْنَ أَصْلٍ زكِيٍ … هَلْ يَتِمُّ النَّمَاءُ مِنْ غَيْرِ إِصْرِ

أَنْتِ أَنْصَفْتَ حَافِظاً دُمْتَ مِنْ قَا … ضٍ نَزِيهٍ وَمِنْ وَزِيرٍ حُرِّ

جَمْعُ آثَارِه وَتَمْثِيلُهَا بِالطَّبعِ … فَضْلٌ يَبْقَى بَقَاءَ الدَّهْرِ

إِنَّ دِيوَانَ حَافِظٍ لهْوَ تَارِيخُ … زَمَانٍ يَحْوِيه دِيوَانُ شِعْرِ

عَرَبِيُّ الأُسْلُوبِ مُمْتَنِعٌ سَهْلٌ … لَهُ فِي النُّهَى أَفَاعِيلُ سِحْرِ

مُسْتَعِيرٌ مِن الحِلى مَا أَعَارَ … اللَّهُ فَصْحَاهُ فِي حَكِيمِ الذِّكْرِ

صَاغَتِ الفِطْنَةُ البَديعَةُ فِيه … أَنْفَسَ الدُّرِّ فِي قَلائِدِ تِبْرِ

حَيْثُ قَلَّبْتَ نَاظِرَِيْكَ تجَلَّتْ … لِلقَوَافِي فِيه مَطَالِعُ زَهْرِ

وَرِيَاضٌ مِنَ المَحَاسِنِ زِينَتْ … بِالأَفَانِينِ مِنْ غِرَاسٍ وَزَهْرِ

فِيه مِنْ سِرِّ مِصْرَ مَا لا … يُجَارِيه بَيَانٌ بِلطْفِ ذَاكَ السِّرِّ

قلْبُهَا نَابِضٌ بِه وَمَعِينُ النَّيلِ … مِنْهُ يَفِيضُ فِي كلِّ بَحْرِ

جَوَّدَ الشِّعْرَ حَافِظٌ كُلَّ تَجْوِ … يدٍ وَصَفَّاهُ فِي أَنَاةٍ وَصَبْرِ

لَمْ يَعقْهُ تَأَخُّرُ العَصْرِ عَنْ شَأْ … و حَبِيبٍ فِي عَصْرِه وَالمَعَرِّي

وَإِلى ذَاكَ لَمْ يَكُنْ فِي بَديعِ … النَّظْمِ إِلاَّهُ فِي بَديعِ النَّثْرِ

صَاغَ مَا صَاغَهُ مُقِلاًّ مُجِيداً … شَأْنُ مَنْ يَنْتَقِي فَرِيدَ الدُّرِّ

فَإِذَا اسْتُنْشِدَ القَوَافِيَ فِي … حَفْلٍ للّه دَرُّهُ أَيُّ دَرِّ

يَخْفُقُ المِنْبَرُ الَّذي يَعْتَلِيهِ … كَخُفُوقِ القُلُوبِ فِي كُلِّ صَدْرِ

بَرَعَ البَارِعِينَ بِالنُّطْقِ وَالإِيمَاءِ … وَالصَّوْتِ بَيْنَ خَفْضٍ وَجَهْرِ

ذَاهِباً آيِباً يُوَاجِهُ أَوْ يَلوِي … فَصِيحَ الأَدَاءِ فَخْمَ النَّبْرِ

صَائِلاً فِي المَجَالِ كَرّاً وَفَرّاً … يَأْسِرُ اللُّبَّ بَيْنَ كَرّ وَفرِّ

وَلَقَدْ يَسْرُدُ الحَديثَ فَيُنْشِي … صَحْبَهُ بِالسَّلافِ مِنْ غَيْرِ وِزْرِ

يُؤْثِرُ المُولَعُونَ بِالخَمْرِ مِنْهُمْ … مَا سَقَاهُمْ عَلى عَتِيقِ الخَمْرِ

عَدِّ عَنْ تِلْكَ فِي المَزَايَا وَقُلْ فِي … الجُود أَوْ فِي الوَفَاءِ أَوْ فِي البِرِّ

وَاشْدُ بِالإِبَاءِ وَالحِلمِ وَالعِزَّ … ةِ فِي العُسْرِ والنَّدَى فِي اليُسْرِ

كَانَ ذَاكَ الفَقِيدُ مِنْ أَكْرَمِ … الخَلقِ بِأَخْلاقِهِ وَلَيْسُوا بِكُثْرِ

رُجُلٌ وَافِرُ المُروءَة لا … يَعْتَدُّ إِلاَّ لِلمَحْمَدَاتِ بِوَفْرِ

وَيُحِبُّ الحَيَاةَ مَلأَى عُهوداً … كُلُّ أَسْبابِهَا بَوَاعِثُ فَخْرِ

يَا مَلِيكاً كَأَنَّ مُهْجَةَ دُنْيَا … هُ حَنَاناً عَلَيْه مُهْجَةُ مِصْرِ

كَاشَفَتْهُ بِسِرِّ ما هَرِمَتْ فِيه … وَمَا زَالَ فِي صِبَاهُ النَّضْرِ

خُلُقٌ طَاهِرٌ وَخلْقٌ سرِيٌّ … وَنُبُوغٌ يَهُلُّ مِنْ وَجْه بَدْرِ

شَرَّفتْ حَافِظاً رِعَايَتُكَ العَليَا … وَفِيهَا لِلذكْرِ أَنْفَسُ ذُخْرِ

فكأنِّي بِقَطْرَةٍ مِنْ ندَى الرَّحْمَة … تحْيِي رَمِيمَهُ فِي القَبْرِ

وَكَأَنِّي بِه مِنَ الغَيْبِ يُمْلِي … فَتُعِيدُ الأصدَاءُ آيَاتِ شُكْرِ

عَاشَ فَارُوق سيِّداً وَمَلِيكاً … وَعَزِيزاً لِمِصْرَ أَطْوَلَ عُمْرِ

وَرَعَاهُ اللّهُ الكَريمُ وَأَوْلا … هُ إِذَا مَا اسْتَعَانَهُ كُلَّ نَصْرِ