قَلِيلٌ بِآدابِ الْمَوَدَّة ِ مَنْ يَفِي – محمود سامي البارودي

قَلِيلٌ بِآدابِ الْمَوَدَّة ِ مَنْ يَفِي … فَمَنْ لِي بِخِلِّ أَصْطَفِيهِ وَأَكْتَفِي؟

بَلَوْتُ بَني الدُّنْيَا، فَلَمْ أَرَ صَاحِباً … يَدُومُ عَلَى وُدٍّ بِغَيْرِ تَكَلُّفِ

فَهَلْ مِنْ فتى ً يَسْرُو عَنِ الْقَلْبِ هَمَّهُ … بِشِيمَة ِ مَطْبُوعٍ عَلَى الْمَجْدِ مُسْعِفِ؟

رَضِيتُ بِمَنْ لاَ تَشْتَهِي النَّفْسُ قُرْبَهُ … ومَنْ لمْ يَجِد مَندوحة ً يَتَكلَّفِ

ولو أنَّنى صادَفتُ خِلاًّ يَسرنِى … على عُدواءِ الدَارِ لَم أتَلهَّفِ

وَلَكِنَّنِي أَصْبَحْتُ فِي دَارِ غُرْبَة ٍ … مُقيماً لَدى قومٍ علَى البُدِّ عُكَّفِ

زَعَانِفُ هُدَّاجُونَ فِي عرَصَاتِهمْ … كَخيطِ نَعامٍ بينَ جَرداءَ صَفصَفِ

حُفَاة ٌ عُرَاة ٌ غَيْرَ أَخْلاقِ صُدْرَة ٍ … تَطِيرُ كَنَسْجِ الْعَنْكَبُوتِ الْمُسَدَّفِ

يَمُجُّونَ مِن أفواهِهِم رَشحَ مُضغة ٍ … كَنَضْحِ دَمٍ يَنْهَلُّ مِنْ أَنْفِ مُرْعَفِ

إِذَا رَاطَنُوا بَعْضاً سَمِعْتَ لِصَوْتِهِمْ … عَزِيفاً كَجِنٍّ فِي الْمَفَاوِزِ هُتَّفِ

فها أنا مِنهُم بينَ شَملٍ مُبدَّدٍ … وَمِنْ حَسَرَاتِي بَيْنَ شَمْلٍ مُؤَلَّفِ

أَحِنُّ إِلَى أَهْلِي، وَأَذْكُرُ جِيرَتِي … وأشتاقُ خُلاَّنِى ، وأصبو لِمألفِى

فلا أنا أسلو عنْ هَواى َ فأنتهِى … وَلاَ أَنَا أَلْقَى مَنْ أُحِبُّ فَأَشْتَفِي

وإنِّى على ما كانَ مِن سَرَفِ النَوى … لَبَاقٍ عَلَى وُدِّي لِمَنْ كُنْتُ أَصْطَفِي

سَجيَّة ُ نفسٍ لا تَميلُ معَ الهوى … وَذِمَّة ُ عَهْدٍ بَيْنَ سَيْفٍ وَمُصْحَفِ

وَمَا كُلُّ مَوْشِيِّ الْحَدِيثِ بِصَادِقٍ … وَلاَ كُلُّ مَنْسُوبٍ إِلَى الْوُدِّ بِالْوَفِي

تَشابَهتِ الأخلاقُ إلاَّ بَقية ً … بِهَا يُعْرَف الْمَاضِي مِنَ الْمُتَخَلِّف

وما شَرفُ الإنسانِ إلاَّ بِنَفسهِ … وإن كانَ ذا مالٍ تليدُ ومُطرفِ

ولَو كانَ نَيلُ الفَضلِ سَهلاً لَزاحَمتْ … رِجالُ الخنا أهلَ العُلا والتَّعطُّفِ

فَإِنْ أَخْلَفَتْ نَفْسٌ طَوِيَّة َ مَا وَأَتْ … فَلِي مِنْ «عَلِيٍّ» صَاحِبٌ غَيْرُ مُخْلِفِ

هُمامُ ، دعا باسمى ، فلبَّيتُ صَوتَهُ … بِيَا مَرْحَباهُ مِنْ فُؤَادِ مُكَلَّفِ

وَلَوْ صَاحَ بِي في غَارَة ٍ لَوَزَعْتُهَا … عَلى متنِ مَحبوكِ السَراة ِ بِمُرهَفِ

وَلَكِنَّنِي لَبَّيْتُ دَعْوَة َ نَظْمِهِ … بِأَسْمَرَ مَشْقُوقِ اللِّسَانِ مُحَرَّفِ

إذا حَرَكتهُ راحَتِى فَوقَ مُهرقٍ … بِذِكْرِ عُلاَهُ بذَّكُلَّ مُثَقَّفِ

هُو البَطلُ السبَّاقُ فى كلِّ غايَة ٍ … يَهَابُ رَدَاهَا الْمَرْءُ قَبْلَ التَّعَسُّفِ

إِذَا قَالَ لَمْ يَتْرُكْ بَيَاناً لِقَائِلٍ … وإن سارَ لم يَترُك مَجالاً لِمُقتفِى

لَهُ قَلَمٌ لَوْ كَانَ لِلسَّيْفِ حَدُّهُ … لَفَلَّ حَبيكَ السَردِ فى كلِّ مَوقفِ

وشُعلَة ُ فِكرٍ لو بِمثلِ ضِيائها … أنارَ سِراجَ الأُفقِ ما كانَ يَنطَفى

فَسِيحُ مَجَالِ الْفِكْرِ، ثَبْتٌ يَقِينُهُ … بَعيدُ مناطِ الهمِّ ، حرُّ التصرُّفِ

أديبٌ ، لَهُ فى جنّة ِ الشِعرِ دَوحَة ٌ … أَفَاءَتْ عَلَى الدُّنْيَا بِأَجْمَلِ زُخْرُفِ

إِذَا نَوَّرَتْ أَفْنَانُهَا غِبَّ دِيمَة ٍ … مِنَ الفِكرِ جاءتْ بالبديعِ المفوَّفِ

تَرَنَّمَ فِيهَا مِنْ ثَنَائي بُلْبُلٌ … بِلَحْنٍ لَهُ فِي السَّمْعِ نَبْرَة ُ مِعْزَفِ

حَفيتُ لَهُ بالودِّ مِنِّى ، وكيفَ لا … أُسَابِقُهُ فِي وُدِّهِ وَهْوَ بي حَفِي؟

تألَّفَ نَفسِى بَعدَ ما زالَ أنسُها … وَنَوَّهَ بِاسْمِي بَعْدَ مَا كَاد يَخْتَفِي

وحَرَّكَ أَسْلاَكَ التَّرَاسُلِ بَيْنَنَا … بِسيَّالِ وُدٍّ لَفظهُ لم يُحرَّفِ

وفى الناسِ معطوفٌ على الوُدِّ قَلبهُ … وَمِنْهُمْ سَقِيمُ الْعَهْدِ بَادِي التَّحَرُّفِ

تَوَسَّمْتُ فِيهِ الْخَيْرَ قَبْلَ لِقائِهِ … وَأَحْمَدْتُ مِنْهُ الْخُبْرَ بَعْدَ التَّعَرُّفِ

وَمَا حَركَاتُ النَّفْسِ إِلاَّ دِلاَلَة ٌ … عَلَى صِدْقِ مَا قَالُوا بهِ في التَّعَيُّفِ

فقد تَكذِبُ العَينُ الفَتى وهوَ غافِلٌ … ويَصدقُ ظَنُّ العاقلِ المتشَوِّفِ

وفيتُ بِوعدى فى الثناءِ وإن يَكُن … مَقَالِي بِهَاتِيكَ الْفَضَائِلِ لاَ يَفِي

وَكَيْفَ وَإِنْ أُوتِيتُ في النَّظْمِ قُدْرَة ً … أضُمُّ شتاتَ الكونِ فى بَعضِ أحرُفِ ؟