غنّى المغنّون من حولى فما سمعت – زكي مبارك

غنّى المغنّون من حولى فما سمعت … روحي وإن راعت الألحانُ آذاني

إني بحبك مشغول تساورني … أطياف حسنك في أعماق وجداني

أصاحب الناس ترضيني خلائقُهم … لعلني أتناسى نار أشجاني

فما أشاهد في كل الوجود سوى … جمالك الفخم يهوى أسرَهُ العاني

لولا جمالك تصبيني فواتنُه … ما فقت في الشعر والتغريد أقراني

حنا الجمال على روحي يسامره … بشائق من أغنّ الصوت فتان

فقمت أرسل لحنى في ذوائبهِ … هوى يصول بأدواج وأفنان

إن راقك الشعر تسبيني عرائسُه … كالحور ترقص في أحلام رضوان

فمن جمالك وهو الدرُّ في نسق … كالشعر ينظم أنغاماً بأوزان

أصوغُ وحيَ فؤادٍ أنت ملهمُه … حتى غدا من جواهُ خير فنّان

يا وجد قلبي ويا حسنا أدين له … بالفاتن الجزل من شدوى وألحاني

جمال وجهك في تقسيمه عجبٌ … كأنه حليةٌ صيغت بميزان

لو كان وجهك في ماضي العصور بدا … لصار معبود أحبار ورهبان

أستغفر اللَه وهو المستجار به … من أن تصيرني عباد أوثان

يهفو إليك ضميرٌ أنت غايته … من جنة أنا فيها الغارس الجاني

غرست حسنك فاذكر بالجميل يدى … يا زهرةً نشأت في روض جنّان

لولا قصيدي ولولا ما هتفت به … ما صرت كالبدر في حسن وتحنان

عيونك السود والسحر المقيم بها … مما خلقت بألحاني وأشجاني

من أنت لا لن أسمى غافلا جهلت … أجفانه ما جرى من ماء أجفاني

سينقضي الدهر لا تدرون ما شغفي … إني أؤجِّجُ آلامي بكتماني

لو بحت يوما بأسرار الغرام بكم … بوح الجريح غفا عن جرحه الحاني

لطار طيفٌ رقيقٌ يفتدى ألمي … بأحور جاهل بالحب حيران

من أنت هذا كلامٌ أنت لا أحد … إنى أردّد ما يوحيه شيطاني

ما ساور الحبّ قلبي تلك مشكلةٌ … أثارها لاغتيابي بعض جيراني

من أنت إني أرى من أنت يا وثنا … أهدى له كل يومٍ ألف قربان

أنغامُ صوتك تشجيني سواجعها … فهل تكون على الأيام قرآني

ما رنّ صوتُك إلا قلت من طرب … هذا الذي نفثت اسجاع وجداني

صوتٌ كشعري رنينُ الروح مصدره … سبحان صوتك يا وحيى وسبحاني

من أنت يا ساحراً لحن الغرام به … لحن الخلود بذاك العالم الثاني

يبقيك شعرى بقاء لا فناء له … ما كان شعرى لهذا العالم الفاني

قد شاب رأسي بنار الحب موقدةً … والحبّ أقباسُ آلامٍ ونيران

قد شاب رأسي وما شاب الغرام بكم … إنى فتىً قد بناه الفاطر الباني

إن الكهولة لم تصدع فؤاد فتىً … يخافه الخلق من إنس ومن جان

قضيت دهري قتالا شبّه قلمى … غربا وشرقا بباريس وبغدان

أين النظير نظيري إنني رجلٌ … تخشى الأعاصير من طغيان طغياني

من أنت سوف ترى من أنت إن سمحت … روحي بقتل هوى بالشعر أحياني

تمضى الليالي طوالاً لا أذوق بها … غير المرارة من آلام حرماني

من أنت سوف ترى من أنت يوم ترى … أنى سأضني الذي بالصد أضناني

لو صح عندك أنى من أهيم به … لطرت تنشد صفحي ثم غفراني

يا أوحد الخلق في تنسيق صورته … ويا مثال السنا من نور تبياني

من أنت لا لن أسمى لن يبوح فمي … باسمٍ إذا قلته في السر أبكاني

يلوح طيفك أحياناً فتنقلني … إلى ديارك يا سحّار أشجاني

وأذرع الأرض أطويها وأنشرها … كالبرق يجتاز أكواناً لأكوان

فهل أراك كما كنا كان هوى … لو شئت صافحني يوما وناجاني

لا تنتهى فيك أشواق أصاولها … بجاحم من سعير الوجد سعران

ولا يجفف دمعي أن لي أملا … في عطف روحك إن أعلنت أحزاني

ما غاية العيش من دنيا أعيش بها … بخافق حائر الأحلام ظمآن

آهاً ولو كان في آه نجاة دمي … من قاتلين بأزهار وريحان

لقلت آها وآها واستعنت دما … هو المحجّب من أسرار وجداني

ما لي أجمجم خوفي منك يزعجني … هل كنت يا آسري بالحسن ديّاني

أأنت أنت أجب إني لأحسبني … أروى حديثك عن أحلام وسنان

لا أنت أنت ولا وجدى سوى كلف … من شاعر بنمير الحسن غصّان

كن كيف شئتَ وأنكر في الهوى شغفي … فسوق أدفع بهتاناً ببهتان

من أنت من شاعرٌ أدميت مهجتهُ … بأعين لك لم توهب لإنسان

من أنت إني أرى من أنت يا رشأ … من غدره سوف يسقى كأس كفراني

ستشرب النار من غدرى مصلصلةً … والدهر يرجم خوّاناً بخوان

عليك أعتب ما عتبى على قمر … قد نام عنى وخلّاني لأحزاني

أصوغ شعري حنيناً كي ترقّ له … من بعد صدّ وهجرانٍ وعصيان

فلا يكون جوابٌ منك من غزلي … إلا جواب كحيل الطرف نعسان

تراع حيناً بأنظاري أصوّبها … إلى جمالك من آن إلى آن

فتستجيب بروح باسم مرحٍ … كأنه الزهر في أيام نيسان

وتشتهي أن ترى أني بما سحرت … عيناك أنظم أشواقي بألحاني

لا لن أبوح بحبي لن أبوح به … إني لأنبت من أركان ثهلان

أكاتم القلب وجدا لو نطقت به … لثار يسأل ما خطبى وما شاني

يا قلب دعني لكتماني أنادمه … لم يبق لي من نديم غير كتماني

من أنت لا لن أسمّى من أهيم به … يكفى الذي قد مضى من فضح أشجاني

عشرون عاما وقلبي طائرٌ غرِدٌ … يساور الحسن من غسن لأغصان

قال الخليّون في شجوى مقالتهم … وجرّحوني بأظفار وأسنان

فليرجعوا وليكفّوا عن ضلالتهم … فما لغير الهوى للمرء عينان

أكان إثما عظيما أن أكون فتى … الحسن في شعره أزهار بستان

لا تسألوا أين شوقى ذلك علمٌ … لو قام من قبره يوما لحيّاني

إنى تحدّيتُه حيّا فآمن بي … أين الذي بمعانيه تحداني

قالوا ذوى الشعر في مصر فقلت له … إني سأجعله من بعض خلاني

ما ضاع من أنا راعيه وكالِئهُ … بحارسٍ أخضر العينين يقظان

للأعين الخضرِ سحرٌ قاهرٌ خضعت … له الفواتك من صلّ وثعبان

الأعين الزرق في باريس ترهبني … كالأعين السود في آطام بغدان

سأوقد الشعر في الوادي وأعلنه … إن كان في حاجة يوماً لإعلان

الشعر في مصر فليسكت أخو غرض … يقول إن حماه أرض لبنان

مصر التي رفعت للشعر رايته … وأيدته بأبطال وفرسان

لولا سنا مصر في لألاء طلعته … ما كان يوما تبدّى نجم مطران

الشعر في الشرق نحن الحارسون له … على الرياض يخاف الغارس الحاني

أسلافنا قد أعادوا نسج بردته … إلى أصالتها في عهد عدنان

ما رام ناظم شعر غير غايتنا … من أن يكون هدى يوحى بميزان

الجد والهزل في أشعارنا تحفٌ … الجد والهزل عند الشعر سيان

فإن عدلنا وأجحفنا فلا عجبٌ … العدل والظلم عند الشعر مئلان

عنّا خذوا العقل في طغيان ثورته … هدما بهدم وبنياناً ببنيان

لا تحسبونا صفحنا عن تطاولكم … لا صفح عن كافر من بعد إيمان

من أنت ما هالةٌ يسرى بها قمرٌ … مسرى الصبابة في أحلام ولهان

فتنتَ بالحسن آلافاً مؤلفة … يا أجمل الخلق من حور وولدان

إنى أغار فليت الناس ما خلقوا … أو ليتهم خلقوا من غير أجفان

إن لم يروك فصوت منك يسحرهم … يا ليتهم خلقوا من غير آذان

من أي روح عصوف أبدعتك يدٌ … من بدعها كان بالخلّاق إيماني

ما البدر في نوره الباهي وطلعته … إذا تألق في أعقاب أدجان

أدل منك على أن الوجود سنا … قد صاغه من سناه روح فتّان

لو يعبد اللَه يوما في بدائعه … لكنت يا ساحرا معبودنا الثاني

اللَه فيك أرى إني ليطربني … أن الوجود جميعاً روحه الغاني

أنت الجمال وروح الحسن خالدة … ما في الحدائق زهرٌ ذاهبٌ فان

إن الورود وإن لم يبق رائعها … يومين تضرب أزماناً بأزمان

إن العبير إذا طاح الذبول به … يبقى وليس عبير الحسن بالفاني

تلك المذاهب من غيّ ومن رشدٍ … ومن جنونٍ وعقل وحيُ أكفان

لو مات من مات حقاً لا نقضى أثرٌ … لذاهب لم يعش إلا بجثمان

ما نوحُ ما أمرهُ والفلك تنجده … من الغوائل طوفاناً لطوفان

هل كان نوح سوى رمزٍ عرفت به … أن لا فناء لروح أو لأبدان

من أنت سوف أسمى يوم تلهمني … ما لم يكن لي في وهم وحسبان

ويوم يصبح شعرى فيك معجزةً … تكون في سبحات الخلد برهاني

أقول هذا وإن لم يجترىء أحد … على المجاراة في الميدان ميداني

أروم شعراً كشعرى فيك يفتنني … كفتنتي بغرامي يوم تلقاني

هذه القصيدة وحيٌ منك أطربني … قل لي متى يتجلى وحيك الثاني

أنت الرسول رسول الحسن في زمن … أنا الأمير به من بعد حسان