عصر الرشيد – إيليا أبو ماضي
كم بين طيّات القرون الخالية … عظة لأبناء الدهور الآتية
عبر اللّيالي كاللّيالي جمّة … لكنّما النزر القلوب الواعية
الدّهر يفنينا و نحسب أنّه … يفني بنا أيّامه و لياليه
فاذا مشى فينا الفناء فراعنا … خلق الخيال لنا الحياة الثانية
إنّ الحياة قصيدة ، أبياتها … أعمارنا ، و الموت فيها القافية
كم تعشق الدنيا و تنكر صدّها … أنسيت أنّ الخلف طبع الغانية ؟
و تودّ لو يبقى عليك نعيمها … أجهلت أن عيك ردّ العارية ؟
خلذ الغرور بما لديك فإنّما … دنياك زائلة و نفسك فانية
إنّ الألى وطئت نعالهم السّهى … و طئت جباههم نعال الماشية
لو أنّ حيّا خالد فوق الثّرى … ما مات ” هارون ” و زال ” معاوية “
أو كان عزّ دائما ما أصبحت … ” بغداد ” في عدد الطلول البالية
أخنت عليها النائبات، فدروها … خرب تعاودها الرياح السّافية
يأوى إليها البوم غير مروّع … من كلّ نعّاب أحمّ الخافيه
نزل القضاء فما حماها سورها … ولطالما ردّ الجيوش الغازية
و اجتاح مجتاح العروش ملوكها … فكأنهم أعجاز نخل خاوية
أين القصور الشاهقات و أهلها … باد الجميع ، فما لهم من باقية
درست معالمها و غيّرها البلى … و لقد ترى حلل المحاسن كاسية
أيّام لا دوح المعارف ذابل … ذاو ، و لا دور الصّناعة خالية
أيّام لا لغة ” الكتاب ” غريبة … فيها و لا همم الأعارب وانية
أيّام كان العلم يغبط أهله … أهل الثراء ، ذوو البرود الضافية
أيّام كان لكلّ حسن شاعر … كلف به و لكلّ شعر راويه
أيّام ” دجلة ” مطمئن هاديء … جذلان يهزأ بالبحور الطامية
” النيل ” خادمه الأمين ، و عبده … ” نهر الفرات ” و كلّ عين ” جارية “
تهوى الكواكب أنّها حصباؤه … أو أنّها شجر عليه حانيه
و تودّ كلّ سحابة مرّت به … لو أنّه سحب عليها هامية
و ترى الغزاله طيفها عند الضحى … في سطحه فتبيت عطشى راوية
أيّام كان الشرق مرهوب اللوا … يكسو الجلال سهوله و روابيه
أيّام تحسدها العواصم مثلما … حسد العواطل أختهنّ الحالية
و لطالما كانت تعزّ بعزّها … ” مصر ” و يحمي ذكرها ” أنطاكيه “
أيّام ” هارون ” يدير شؤونها … يا عصر هارون ” عليك سلاميه
ملك أدال من الجهالة علمه … و أذلّ صارمه الملوك العاتيه
ومشت تطوّف في البلاد هباته … تغشى حواضرها و تغشى البادية
ملأ البلاد عوارفا و معارفا … و الأرض عدلا و النفوس رفاهيه
فتحضّر البادون في أيّامه … و استأنست حتّى الوحوش الضارية
و تسربلت ” بغداد ” ثوب مهابة … ليست تراه أو ” تراه ” ثانيه
هاتيك أيّام تلاشت مثلما تمحو … من الرقّ الحروف الماحية
لم يبق إلاّ ذكرها يا حسنها … ذكرى تهشّ لها العظام الباليه
لو أنّ هذا الدهر سفر كنت يا … عصر الحضارة متنه و الحاشية
عصر لئن جاء البشير بعودة … فلأخلعنّ على البشير شبابيه ..
إيه ” أبا المأمون ” ذكرك آبد … في الأرض مثل الشامخات الراسيه
باق على مرّ العصور بقاءها … و كذاك ذكر ذوي النفوس السامية
إن لم يكن لك من مثال بيننا … فلأنّ روحك كلّ حين دانيه
هي في الخمائل زهرة فيّاحة … هي في الكواكب شمسها المتلالية
إنّي لأعجب كيف متّ و في الورى … حيّ و كيف طوتك هذي الطاوية
ومن الزمان يهدّ ما شيّدته … ويح الزمان أما تهيّب بانيه ؟
تشكو إليك اليوم نفسي شجوها … فلأنت مفزع كلّ نفس شاكية
أتراك تعلم أنّ دارك بدّلت … من صوت ” إسحق ” بصوت النّاعية ؟
أتراك تعلم أنّ ما أثلته … قد ضيّعته الأنفس المتلاهية ؟
يا ويح هذا الشرق بعدك إنّه … للضعف بات على شفير الهاوية
ما كان يقنع بالنجوم وسائدا … و اليوم يقنع أهله بالعافية
مسترسلون إلى الذهول كأنّما … سحروا أو اصطرعوا ببنت الخابية
مستسلمون إلى القضاء كأنّما … أخذوا و لمّا يؤخذوا بالغاشية
المجد إدراك النفيس ، و عندهم … ما المجد إلاّ شادن أو شادية
يهوى الحياة الناس طوع نفوسهم … و هم يريدون الحياة كما هيه
صغرت نفوسهم فبات عزيزهم … يخشى الجبان كما يخاف الطاغية
حملوا المغارم ساكتين كأنّما … كبرت على أحناكهم لا الناهية
لم تسمع الدنيا بقوم قبلهم … ماتوا و ما برحوا الديار الفانية
الله لو حرصوا على أمجادهم … فلتلك عنوان الشعوب الراقية
ملك ” العلوج ” أمورهم و متاعهم … حتّى سوامهم و حتّى الآنية
وا خجلة العربيّ من أجداده … صارت عبيدهم الطغاة موالية ..
أبني الغطارفة الجبابرة الألى … و طئوا ” اللّوار ” و دوّخوا ” إسبانية “
من حولكم و أمامكم تاريخهم … فاستخبروه فذاك أصدق راويه
قادوا الجيوش فكلّ سهل ضيّق … ورموا المعاقل فهي أرض داحيه
و سطوا فأسقطت العروش ملوكها … رعبا و أجفلت الصروح العالية
و مشوا على هام النجوم فلم تزل … في اللّيل من وجل تحدّق ساهية
وردت خيولهم المجرّة شزّبا … و الشهب من حول المجرّة صادية
أعطاهم صرف الزمان زمامه … أمنوا و ما أمن الزمان دواهيه
لا أستفزّكم لمثل فتوحهم لكن … إلى حفظ البقايا الباقية
أتذلّ آناف الملوك جدودكم … و تسومكم خسفا رعاة الماشية ؟
كم تصبرون على الهوان كأنّكم … في غبطة و الذّلّ نار حامية
يا للرجال أما علمتم أنّكم … إن لم تثوروا ، أمّة متلاشية ؟
” دار السّلام ” تحيّة من شاعر … حسدت مدامعه عليك قوافية
فأراق ماء شؤونه و لو أنّه … في الغاديات أراق ماء الغادية
لو كان مجدك مستردا بالبكا … قطرت محاجره الدماء القانية
فعليك تذهب كلّ نفس حسرة … و لمثل خطبك تستعار الباكية