ظنَّ الظنونَ فباتَ غيرَ موسَّدِ – محمود سامي البارودي

ظنَّ الظنونَ فباتَ غيرَ موسَّدِ … حَيْرَانَ يَكْلأُ مُسْتَنِيرَ الْفَرْقَدِ

تُلْوِي بِهِ الذُّكُرَاتُ حَتَّى إِنَّهُ … لَيَظَلُّ مُلْقى ً بَيْنَ أَيْدِي الْعُوَّدِ

طَوْراً يَهُمُّ بِأَن يَزِلَّ بِنَفْسِهِ … سَرَفاً، وتاراتٍ يَمِيلُ عَلَى الْيَدِ

فكأنَّما افترستْ بطائرِ حلمهِ … مشمولة ٌ ، أوساغَ سمَّ الأسودِ

قالوا غداً يومَ الرَّحيل ، ومن لهم … خوفَ التفرُقِ أن أعيشَ إلى غدِ ؟

هى مهجة ٌ ذهبَ الهوى بشغافِها … مَعْمُودَة ٌ، إِنْ لَمْ تَمُتْ فَكَأَنْ قَدِ

يأَهلَ ذا البيتِ الرفيعِ منارهُ … أدعوكم يا قومُ دعوة َ مقصَد

إِنِّي فَقَدْتُ الْيَوْمَ بَيْنَ بُيُوتِكُمْ … عَقْلِي، فَرُدُّوهُ عَلَيَّ لأَهْتَدِي

أو فاستقيدونى ببعضِ قيانكم … حَتَّى ترُدَّ إِليَّ نَفْسِي، أَوْ تَدِي

بَلْ يا أَخَا السَّيْفِ الطَّوِيلِ نِجَادُهُ … إن أنتَ لم تحمِ النَّزيلَ فأغمدِ

هَذِي لِحَاظُ الْغِيدِ بَيْنَ شِعَابِكُمْ … فَتَكَتْ بنَا خَلْساً بِغَيْرِ مُهَنَّدِ

مِنْ كُلِّ نَاعِمَة ِ الصِّبَا بَدَوِيَّة ٍ … رَيَّا الشَّبابِ سَلِيمَة ِ الْمُتَجَرَّدِ

هيفاءَ إن خطرَتْ سبَتْ ، وإذا رنَتْ … سَلَبَتْ فُؤَادَ الْعَابِدِ الْمُتَشَدِّدِ

يخفضنَ من أبصارهنَّ تختُّلاً … لِلنَّفْسِ، فِعْلَ الْقَانتَاتِ الْعُبَّدِ

فَإِذَا أَصَبْنَ أَخَا الشَّبَابِ سَلَبْنَهُ … ورمَينَ مهجتهُ بطرفٍ أصيدِ

وإذا لمحنَ أَخا المشيبِ قلينَهُ … وسترنَ ضاحية ِ المحاسنِ باليدِ

فَلَئِنْ غَدَوْتُ دَرِيئَة ً لعُيُونِهَا … فلقد أفلُّ زعارة َ المتمرد

ولقدْ شهدتُ الحربَ فى إبَّانها … وَلَبِئْسَ رَاعِي الْحَيِّ إِنْ لَمْ أَشْهَدِ

تتقصَّفُ المرَّانَ فى حجَراتها … ويعودُ فيها السيفُ مثلَ الأَدرَد

عصَفت بها ريحُ الرَّدى ، فتدفَّقت … بِدَمِ الْفَوَارِسِ كَالأَتِيِّ الْمُزْبِدِ

ما زِلْتُ أَطْعَنُ بَيْنَها حَتَّى انْثَنَتْ … عَنْ مِثْلِ حَاشِيَة ِ الرِّدَاءِ الْمُجْسَدِ

ولقد هبطتُ الغيثَ يلمعُ نورهُ … فى كلِّ وضَّاحِ الأّسرَّة ِ أغيد

تجرى بهِ الآرامُ بينَ مناهلٍ … طَابَتْ مَوَارِدُهَا، وَظِلٍّ أَبْرَدِ

بمضمَّرٍ أرنٍ كأنَّ سراتهُ … بَعْدَ الْحَمِيمِ سَبِيكَة ٌ مِنْ عَسْجَدِ

خَلصَتْ لَهُ الْيُمْنَى ، وَعَمَّ ثلاثَة ً … منهُ البياضُ إلى وظيفٍ أجردِ

فكأنما انتزعَ الأصيلَ رداءهُ … سَلَباً، وَخَاضَ مِنَ الضُّحَى في مَوْرِدِ

زَجِلٌ يُرَدِّدُ فِي اللَّهَاة ِ صَهِيلَهُ … رَفْعاً كَزَمْزَمَة ِ الْحَبِيِّ الْمُرْعِدِ

متلفتاً عن جانبيهِ ، يهزهُ … مرحُ الصِّبا كالشاربِ المتغرِّدِ

فإذا ثنيتَ لهُ العنانَ وجدتهُ … يَمْطُو كَسِيدِ الرَّدْهَة ِ الْمُتَوَرِّدِ

وإذا أطعتَ لهُ العنانَ رأيتهُ … يَطْوِي الْمَهَامِهَ فَدْفَداً فِي فَدْفَدِ

يكفيكَ منهُ إذا أحسَّ بنبأة ٍ … شدٌّ كمعمعة ِ الأَباءِ الموقدِ

صلبُ السنابكِ لا يمرُ بجلمدٍ … فى الشَّدِّ إلاَّ رضَّ فيهِ بجلمدِ

نِعْمَ الْعَتَادُ إِذَا الشِّفَاهُ تَقَلَّصَتْ … يومَ الكريهة ِ فى العجاجِ الأربدِ

ولقدْ شربتُ الخمرَ بينَ غطارفٍ … شُمِّ الْمَعَاطِسِ كَالْغُصُونِ الْمُيَّدِ

يَتَلاَعَبُونَ عَلَى الْكُئُوسِ إِذا جَرَتْ … لَعِباً يَرُوحُ الْجِدُّ فِيهِ وَيَغْتَدِي

لاَ يَنْطِقُونَ بِغَيْرِ ما أَمَرَ الْهَوَى … فكلامهُم كالروض مصقولٌ ندى

من كلِّ وضَّاحِ الجبينِ كأنَّهُ … قَمَرٌ تَوَسَّطَ جُنْحَ لَيْلٍ أَسْوَدِ

بَلْ رُبَّ غَانِيَة ٍ طَرَقْتُ خِبَاءَهَا … والنجمُ يطرفُ عن لواحظِ أرمدِ

قَالَتْ وَقَدْ نَظَرَتْ إِلَيَّ: فَضَحْتَنِي … فَارْجِعْ لِشَأْنِكَ فَالرِّجالُ بِمَرْصَدِ

فمسحتها حتَّى اطمأنَّ فؤادها … وَنَفَيْتُ رَوْعَتَهَا بِرَأْيٍ مُحْصَدِ

وَخَرَجْتُ أَخْتَرِقُ الصُّفُوفَ مِنَ الْعِدَا … متلثِّماً والسيفُ يلمعُ فى يدى

فَلَنِعْمَ ذَاكَ الْعَيْشُ لَوْ لَمْ يَنْقَضِ … وَلَنِعْمَ هَذَا الْعَيْشُ إِنْ لَمْ يَنْفَدِ

يرجو الفتى فى الدهر طولَ حياتهِ … ونَعِيمِهِ، والْمَرْءُ غَيْرُ مُخَلَّدِ

كلمات: رضيه عبد الكريم

ألحان: طلال مداح