طَرِبتُ ، وعَادَتنى المَخيلة ُ والسُّكرُ – محمود سامي البارودي

طَرِبتُ ، وعَادَتنى المَخيلة ُ والسُّكرُ … وَأَصْبَحْتُ لاَ يُلْوِي بِشِيمَتِي الزَّجْرُ

كَأَنِّيَ مَخْمُورٌ سَرَتْ بِلِسَانِهِ … مُعتَّقة ٌ مِمَّا يَضنُّ بِها التجرُ

صَرِيعُ هَوى ً، يُلْوي بِيَ الشَّوْقُ كُلَّمَا … تَلأْلأَ بَرْقٌ، أَوْ سَرَتْ دِيَمٌ غُزْرُ

إِذَا مَال ميزَانُ النَّهارِ رَأَيْتُنِي … على حَسراتٍ لا يُقاومها صَبرُ

يَقولُ أناسٌ إنَّهُ السِحرُ ضلَّة ً … وَمَا هِيَ إلاَّ نَظْرَة ٌ دُونَهَا السِّحْرُ

فَكَيْفَ يَعِيبُ النَّاسُ أَمْرِي، وَلَيْسَ لِي … وَلاَ لاِمْرِىء ٍ في الحُبِّ نَهْيٌ وَلاَ أَمْرُ؟

ولَو كانَ ممَّا يُستطاعُ دِفاعهُ … لألوَت بهِ البيضُ المباتير والسُّمرُ

وَلَكِنَّهُ الْحُبُّ الَّذِي لَوْ تَعَلَّقَتْ … شرارتهُ بِالجمرِ لاحتَرقَ الجمرُ

عَلَى أَنَّنِي كَاتَمْتُ صَدْرِيَ حُرْقَة ً … مِنَ الْوجْدِ لاَ يَقْوَى عَلَى حَمْلِها صَدْرُ

وَكَفْكَفْتُ دَمْعاً، لَوْ أَسَلْتُ شُئُونَهُ … عَلَى الأَرْضِ مَا شَكَّ امْرُؤٌ أَنَّهُ الْبَحْرُ

حياءً وكِبراً أن يقالَ ترجَّحت … بهِ صَبوة ٌ ، أو فلَّ من غَربهِ الهَجرُ

وإنِّى امرؤٌ لولا العوائقُ أذعَنت … لِسلطانهِ البدو المُغيرَة ُ والحَضرُ

مِنَ النَّفَرِ الْغُرِّ الَّذِين سُيُوفُهُمْ … لَهَا في حَوَاشِي كُلِّ دَاجِيَة ٍ فَجْرُ

إِذَا اسْتَلَّ مِنْهُمْ سَيِّدٌ غَرْبَ سَيْفِهِ … تفزَّعتِ الأفلاكُ ، والتفَتَ الدَهرُ

لَهُمْ عُمُدٌ مَرْفُوعة ٌ، وَمَعاقِلٌ … وألوِية ٌ حُمرٌ ، وأفنيَة ٌ خُضرُ

وَنَارٌ لَهَا فِي كُلِّ شَرْقٍ ومَغْرِبٍ … لِمُدَّرِعِ الظَّلْمَاءِ أَلْسِنَة ٌ حُمْرُ

تَمُدُّ يَداً نَحْوَ السَّمَاءِ خَضِيبَة ً … تصافحها الشِعرَى ، ويلثِمُها الغَفرُ

وَخَيْلٌ يَعُمُّ الْخَافِقَيْنِ صَهِيلُهَا … نزائعُ معقودٌ بِأعرافِها النَّصرُ

مُعَوَّدة ٌ قَطعَ الفيافى ، كأنَّها … خُداريَّة ٌ فتخاءُ ، ليسَ لَها وكرُ

أقاموا زماناً ، ثمَّ بدَّدَ شملهُم … ملولٌ منَ الأيَّامِ ، شيمتُهُ الغدرُ

فلم يبقَ منهُم غيرُ آثارِ نِعمَة ٍ … تضوعُ بِريَّاها الأحاديثُ والذكرُ

وَقَدْ تَنْطِقُ الآثَارُ وَهْيَ صَوَامِتٌ … ويُثنى بريَّاهُ على الوابلِ الزَّهرُ

لَعَمْرُكَ مَا حَيٌّ وَإِنْ طَالَ سَيْرُهُ … يُعدُّ طليقاً والمنونُ لهُ أسرُ

وما هذهِ الأيامُ إلاَّ منازلٌ … يَحُلُّ بِها سَفْرٌ، وَيَتْرُكُهَا سَفْرُ

فلا تَحسبنَّ المرءَ فيها بِخالدٍ … وَلَكِنَّهُ يَسْعَى ، وَغَايَتُهُ الْعُمْرُ