طربتْ ، وَ لولاَ الحلمُ أدركني الجهلُ – محمود سامي البارودي

طربتْ ، وَ لولاَ الحلمُ أدركني الجهلُ … وَعَاوَدَنِي مَا كَانَ مِنْ شِرَّتِي قَبْلُ

فَرُحْتُ، كَأَنِّي خَامَرَتْنِي سَبِيئَة ٌ … منَ الراحِ ، منْ يعلقْ بها الدهرَ لا يسلو

سَلِيلَة ُ كَرْمٍ، شَابَ فِي المَهْدِ رَأْسُهَا … وَ دبَّ لها نسلٌ ، وَ ما مسها بعلُ

إِذَا وَلَجَتْ بَيْتَ الضَّمِيرِ، رَأَيْتَهَا … وراءَ بناتِ الصدرِ ، تسفلُ ، أو تعلو

كَأَنَّ لَهَا ضِغْناً عَلَى الْعَقْلِ كَامِناً … فَإِنْ هِيَ حَلَّتْ مَنْزِلاً رَحَلَ الْعَقْلُ

تعبرُ عنْ سرَّ الضميرِ بألسنٍ … منَ السكرِ مقرونٍ بصحتها النقلُ

مُحَبَّبَة ٌ لِلنَّفْسِ، وَهْيَ بَلاَؤُها … كَمَا حُبِّبَتْ فِي فَتْكِهَا الأَعْيُنُ النُجْلُ

يَكَادُ يَذُودُ اللَّيْثَ عَنْ مُسْتَقَرِّهِ … إِذَا ما تَحَسَّى كَأْسَهَا الْعَاجِزُ الْوَغْلُ

تَرَى لِخَوَابِيهَا أَزِيزاً، كَأنَّهَا … خَلاَيَا تَغَنَّتْ فِي جَوَانِبِهَا النَّحْلُ

سَوَاكِنُ آطَامٍ، زَفَتْهَا مَعَ الضُّحَى … يدا عاسلٍ يشتارُ ، أوْ خابطٍ يفلو

دنا ، ثمَّ ألقى النارَ بينَ بيوتها … فطارتْ شعاعاً ، لا يقرُّ لها رحلُ

مروعة ٌ ، هيجتْ ، فضلتْ سبيلها … فَسَارَتْ عَلَى الدُّنْيَا، كَمَا انْتَشَرَ الرِّجْلُ

فبتُّ أداري القلبَ بعضَ شجونهِ … وأَزْجُرُ نَفْسِي أَنْ يُلِمَّ بِهَا الْهَزْلُ

وَ ما كنتُ أدري وَ الشبابُ مطية ٌ … إلى الجهلِ أنَّ العشقَ يعقبهُ الخبلُ

رمى اللهُ هاتيكَ العيونَ بما رمتْ … وَ حاسبها حسبانَ منْ حكمهُ العدلُ

فَقَدْ تَرَكْتَنِي سَاهِي الْعَقَلِ، سَادِراً … إلى الغيَّ ، لاَ عقدٌ لديَّ ، وَ لاَ حلٌّ

أَسِيرُ، وَمَا أَدْرِي إِلى أَيْنَ يَنْتَهِي … بِيَ السَّيْرُ، لكِنِّي تَلَقَّفُنِي السُّبْلُ

فَلاَ تَسْأَلَنِّي عَنْ هَوَايَ؛ فَإِنَّنِي … وَرَبِّكَ أَدْرِي كَيْفَ زَلَّتْ بِيَ النَّعْلُ؟

فَمَا هِيَ إِلاَّ أَنْ نَظَرْتُ فُجَاءَة ً … بحلوانَ حيثُ انهارَ ، وَ انعقدَ الرملُ

إِلَى نِسْوَة ٍ مِثْلِ الْجُمَانِ، تَنَاسَقَتْ … فرائدهُ حسناً ، وَ ألفهُ الشملُ

منَ الماطلاتِ المرءَ ما قدْ وعدنهُ … كذاباً ؛ فلا عهدٌ لهنَّ ، وَ لاَ إلٌّ

تكنفنَ تمثالاً منَ الحسنِ رائعاً … يُجَنُّ جُنُوناً عِنْدَ رُؤْيَتِهِ الْعَقْلُ

فكانَ الذي لولاهُ ما درتُ هائماً … أَرُودُ الْفَيَافِي، لاَ صَدِيقٌ، وَلاَ خِلُّ

فويلمها منْ نظرة ٍ مضرجية ٍ … رُمِيتُ بِهَا مِنْ حَيْثُ وَاجَهَنِي الأَثْلُ

رُمِيتُ بِهَا وَالْقَلْبُ خِلْوٌ مِنَ الْهَوَى … فَمَا بَرِحَتْ حَتَّى اسْتَقَلَّ بِهِ شُغْلُ

لقدْ علقتْ ما ليسَ للنفس دونها … غَنَاءٌ، وَلاَ مِنْهَا لِذِي صَبْوَة ٍ وَصْلُ

فَتَاة ٌ يَحَارُ الطَّرْفُ في قَسَمَاتِهَا … لها منظرٌ منْ رائدِ العينِ لا يخلو

لَطِيفَة ُ مَجْرَى الرُّوحِ، لَوْ أَنَّهَا مَشَتْ … عَلَى سَارِبَاتِ الذَّرِّ مَا آدَهُ الْحِمْلُ

لها نظرة ٌ سكرى ، إذا أرسلتْ بها … إلى كبدٍ ؛ فالويلُ منْ ذاكَ وَ الثكلُ

تُريقُ دِمَاءً حَرَّمَ اللهُ سَفْكَهَا … وَتَخْرُجُ مِنْهَا، لاَ قِصَاصٌ، ولا عَقْلُ

لنا كلَّ يومٍ في هواها مصارعٌ … يهيجُ الردى فيها ، وَ يلتهبُ القتلُ

مصارعُ شوقٍ ، ليس يجري بها دمٌ … وَ مرمى نفوسٍ لا يطيرُ بهِ نبلُ

هنيئاً لها نفسي ، على أنَّ دونها … فوارسَ ، لا خرسُ الصفاحِ ، وَ لاَ عزلُ

مِنَ الْقَوْمِ ضَرَّابِي الْعَرَاقِيبِ وَالطُّلَى … إِذَا اسْتَنَّتِ الْغَارَاتُ، أَوْ فَغَرَ الْمَحْلُ

إِذَا نَامَتِ الأَضْغَانُ عَنْ وَتَرَاتِهَا … فَقَوْمِيَ قَوْمٌ لاَ يَنَامُ لَهُمْ ذَحْلُ

رجالٌ أولو بأسٍ شديدٍ ونجدة ٍ … فَقَوْلُهُمُ قَوْلٌ، وَفِعْلُهُمُ فِعْلُ

إِذَا غَضِبُوا رَدُّوا إِلَى الأُفْقِ شَمْسَهُ … وَ سالَ بدفاعِ القنا الحزنُ والسهلُ

مساعيرُ حربٍ ، لا يخافونَ ذلة ً … ألا إنَّ تهيابَ الحروبِ هوَ الذلُّ

إذا أطرقوا أبصرتَ ، بالقومِ خيفة َ … لإطراقهمْ ، أوْ بينوا ركدَ الحفلُ

وَ إنْ زلتِ الأقدامُ في دركِ غاية ٍ … تَحَارُ بِهَا الأَلْبَابُ كَانَ لَهَا الْخَصْلُ

أولئكَ قومي ، أيَّ قومٍ وعدة ٍ … فلا ربعهمْ محلٌ ، وَ لاَ ماؤهمْ ضحلُ

يَفِيضُونَ بِالْمَعْرُوفِ فَيْضاً، فَلَيْسَ فِي … عطائهمُ وعدٌ ، وَ لاَ بعدهُ مطلُ

فزرهمْ تجدْ معروفهمْ دانيَ الجنى … عَلَيْكَ، وَبابَ الْخَيْرِ لَيْسَ لَهُ قُفْلُ

تَرَى كُلَّ مَشْبُوبِ الْحَمِيَّة ِ، لمْ يَسِرْ … إِلَى فِئَة ٍ إِلاَّ وَطَائِرُهُ يَعْلُو

بَعِيدُ الْهَوَى ، لاَ يَغْلِبُ الظَّنُّ رَأْيَهُ … وَ لاَ يتهادى بينَ تسراعهِ المهلُ

تصيحُ القنا مما يدقُّ صدورها … طِعَاناً، وَيَشْكُو فِعْلَ سَاعِدِهِ النَّصْلُ

إِذَا صَالَ رَوَّى السَّيْفُ حَرَّ غَلِيلِهِ … وَإِنْ قَالَ أَورَى زَنْدَهُ الْمَنْطِقُ الْفَصْلُ

لهُ بينَ مجرى القولِ آياتُ حكمة ٍ … يَدُورُ عَلَى آدَابِهَا الْجِدُّ وَالْهَزْلُ

تلوحُ عليهِ منْ أبيهِ وجدهِ … مَخَايِلُ سَاوَى بَيْنَهَا الْفَرْعُ وَالأَصْلُ

فَأَشْيَبُنَا فِي مُلْتَقَى الْخَيْلِ أَمْرَدٌ … وَ أمردنا في كلَّ معضلة ٍ كهلُ

لَنَا الْفَصْلُ فِيمَا قَدْ مَضَى ، وَهْوَ قَائِمٌ … لَدَيْنَا، وَفِيمَا بَعْدَ ذَاكَ لَنَا الْفَضْلُ