سَل الجيزة َ الفيحاءَ عنْ هرَمَى ْ مِصرِ – محمود سامي البارودي

سَل الجيزة َ الفيحاءَ عنْ هرَمَى ْ مِصرِ … لَعَلَّكَ تَدْرِي غَيْبَ مَا لَمْ تَكُنْ تَدْرِي

بِنَاءَانِ رَدَّا صَوْلَة َ الدَّهْرِ عَنْهُمَا … ومن عجبٍ أن يَغلِبا صولة َ الدَّهرِ

أَقَامَا عَلَى رَغْمِ الْخُطُوبِ لِيَشْهَدَا … لبانيهِما بينَ البريَّة ِ بالفَخرِ

فكم أممٍ فى الدَّهرِ بادَت ، وأعصرٍ … خَلت ، وهُما أعجوبَة ُ العينِ والفكرِ

تَلوحُ لآثارِ العُقولِ عَليهِما … أساطيرُ لاتَنفكُّ تتلى إلى الحَشرِ

رُمُوزٌ لَو اسْتَطْلَعْتَ مَكْنُونَ سِرِّهَا … لأبصرتَ مجموعَ الخلائقِ فى سَطرِ

فما من بناءٍ كانَ ، أو هوَ كائنٌ … يُدَانِيهِمَا عِنْدَ التَأَمُّلِ وَالْخُبْرِ

يُقَصِّرُ حُسْناً عَنْهُمَا «صَرْحُ بَابِلٍ» … وَيَعْتَرِفُ «الإِيوَانُ» بِالْعَجْزِ وَالْبَهْرِ

فلو أنَّ “هاروتَ ” انتحَى مَرصديهِما … لألقى مَقاليدَ الكَهانة ِ والسِحرِ

كَأَنَّهُمَا ثَدْيَانِ فَاضَا بِدِرَّة ٍ … منَ النيلِ تروى غُلَّة َ الأرضِ إذ تجرِى

وبينَهما ” بَلْهيبُ ” فى زِى ِّ رابضٍ … أَكَبَّ عَلَى الْكَفَّيْنِ مِنْهُ إِلَى الصَّدْرِ

يُقَلِّبُ نَحْوَ الشَّرْقِ نَظْرَة َ وَامِقٍ … كَأَنَّ لَهُ شَوْقاً إِلَى مَطْلَعِ الْفَجْرِ

مَصانِعُ فيها للعلومِ غوامِضٌ … تَدُلُّ عَلَى أَنَّ ابْنَ آدَمَ ذُو قَدْر

رسا أصلُها ، وامتدَّ فى الجَوِّ فَرعُها … فأصبَحَ وكراً للسِماكَينِ والنَسرِ

فقُمْ نَغترِف خَمرَ النُّهى مِن دِنانِها … ونَجنى بِأيدى الجدِّ رَيحانة َ العُمرِ

فَثمَّ علومٌ لم تفَتَّق كِمامُها … وثَمَّ رموزٌ وحيُها غامِضُ السِرِّ

أقمتُ بِها شَهرا ، فأدرَكتُ كُلَّ ما … تَمَنَّيْتُهُ مِنْ نِعْمَة ِ الدَّهْرِ فِي شَهْر

نَروحُ ونَغدو كُلَّ يومٍ لنَجتنى … أزاهيرَ علمٍ لاتجفُّ معَ الزَّهرِ

إذا ما فتحنا قفلَ رمزٍ بَدت لنا … مَعَارِيضُ لمْ تُفْتَحْ بِزِيجٍ وَلاَ جَبْرِ

فَكَمْ نُكَتٍ كَالسِّحْرِ فِي حَرَكَاتِهِ … تُريكَ مدبَّ الرُّوحِ فى مُهجَة ِ الذرِّ

سَكِرْنَا بِما أَهْدَتْ لَنَا مِنْ لُبابِها … فيا لكَ مِن سكرٍ أتيحَ بلا خَمرِ

وما ساءنى إلاَّ صَنيعُ معاشرٍ … أَلَحُّوا عَلَيْهَا بِالْخِيَانَة ِ وَالْغَدْرِ

أبادوا بِها شَملَ العُلومِ ، وشَوَّهوا … مَحَاسِنَ كَانَتْ زِينَة َ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ

فَكم سَمَلوا عَيناً بِها تُبصَرُ العُلا … وَشَلُّوا يَداً كَانَتْ بِها رَايَة ُ النَّصْرِ

تمنَّوا لقاطَ الدُرِّ جَهلاً ، وما درَوا … بِأَنَّ حَصَاهَا لاَ يُقَوَّمُ بِالدُرِّ

وفَلُّوا لِجمعِ التِبرِ صُمَّ صُخورِها … وَأَيْسَرُ مَا فَلُّوهُ أَغْلَى مِنَ التِّبْرِ

وَلَكِنَّهُمْ خَابُوا، فَلَمْ يَصِلُوا إِلى … مُناهُم ، ولاأبقوا علَيها منَ الخَترِ

فَتبًّا لَهُم مِن مَعشرٍ نَزَعَت بِهِم … إلى الغى ِّ أخلاقٌ نَبتنَ على غِمرِ

ألا قبَّحَ اللهُ الجهالة ، إنَّها … عَدوَّة ما شادَتهُ فِينا يدُ الفِكرِ

فلَو رَدَّتِ الأيَّامُ مُهجَة َ ” هُرمُسٍ ” … لأعولَ من حزنٍ على نوَبِ الدَهرِ

فيا نَسَماتِ الفَجرِ أدَّى تَحيَّتى … إِلى ذَلِكَ الْبُرْجِ الْمُطلِّ عَلى النَّهْرِ

ويا لَمعاتِ البرق إن جُزتِ بالحِمى … فَصُوبِي عَلَيْهَا بِالنِّثَارِ مِنَ الْقَطْرِ

عَليها سَلامٍ من فؤادٍ متيَّمٍ … بِها، لاَ بِرَبَّاتِ الْقَلائِدِ والشَّذْرِ

ولا بَرِحَت فى الدَّهرِ وَهى َ خوالِدٌ … خُلودَ الدَّرارى والأَوابدِ مِن شِعرى