سأَبكي وأَستبكي عليك المعاليا – عبدالغفار الأخرس

سأَبكي وأَستبكي عليك المعاليا … وأسْكُبُ من عَيني الدموعَ الجواريا

وأَصْلى لظى نار الأسى كلّما أرى … مكانك ما قد كان بالأمس خاليا

وإنْ لم يكن يجدي البكاءُ ولم يعدْ … عليَّ الأسى من ذلك العهد ماضيا

ومن حقِّ مثلي أنْ يذوب حشاشة ً … من الحزن أو يبكي الديار الخواليا

خلتْ من أبي محمود دار عهدتها … تضيء به أرجاءها والنواحيا

تنوَّرها من كلّ فجٍّ مؤمّلٌ … وطارق ليلٍ يبتغي العزَّ راجيا

على ثقة ٍ بالنَّيل مما يرومه … يعاني السُّرى ليلاً ويطوي الفيافيا

إذا بَلَغَتْ آل الجميل ركابه … فقد فاز بالجدوى ونال الأمانيا

ولما مضى عبد الغني مَضَتْ به … صنايع برٍّ تستفاض أياديا

مضى أيها الماضي بك الجود والندى … وأصبحَ روض الفضل بعدك ذاويا

لئِنْ كنتُ أغدو من جميلك ضاحكاً … لقد رحتُ ألفى موجع القلب باكيا

وقد كنتُ ألقى الخيرَ عندك كلَّه … إلى أنْ قضى الرحمن أنْ لا تلاقيا

فقدناك فقدانِ الغمامة أقلعتْ … وقد ألْبَسَتْ برد الربيع اليمانيا

وكان مرادي أنْ أكون لك الفدى … ولكن أراد الله غير مراديا

على هذه الدينا العَفا بعد باسلٍ … عقير المنايا يعقر الليث جاثيا

ولو أنَّ قَرْماً يفتدى من مَنِيَّة ٍ … ويمضي بما يفدي من الموت ناجيا

فدتكَ صناديدُ الرجال وأرخصتْ … نفوساً أهانتها المنايا غواليا

لقيتُ بك الأيامَ غرّاً فأصبحت … بفقدك يا شمس الوجود لياليا

وما كنتُ أخشى أنْ أراعَ بحادثٍ … يجرُّ إليَّ القارعات الدواهيا

وفي نظر من عين لطفك شاملي … لقد كنتَ مرعيّاً وقد كنتَ راعيا

وكنتُ إذا يمَّمتُ جودك ساخطاً … على الدهر أمضي من جميلك راضيا

أمرُّ على ناديك بعدك قائلاً … سُقِيتَ الحيا المنهلَّ بالوبل ناديا

وأذكرُ ما أَوْلَيْتَني من صنايع … من البرّ معروفاً وما كنت ناسيا

وكنتُ متى أسعى إليكَ بحاجة … حَمِدْتُ لدى علياك فيك المساعيا

فيا جَبَلاً ساروا به لضريحه … يطاول بالمجد الجبال الرواسيا

… وفي رحمة الرحمن أصبحتَ ثاويا

تبوَّأتَ منها مقعدَ الصدق مكرماً … ونلْتَ مقاماً عند ربك عالياً

وغودِرْتَ في دار النعيم مخلَّداً … وفارقْتَ إذ فارقْتَ ما كان فانيا

أناعٍ نعاه معلناً بوفاته … أَسْمَعْتَ أَمْ أَصْمَمْتَ، ويحك ناعيا

شققت قلوباً لا جيوباً وأذرفتْ … إلى جَنَّة ِ الفردوس والعفو والرضى

وأسرعتَ إحراقَ القلوب صوادياً … وعاجلتَ إهراق الدموع سواقيا

رُوَيْدَك ما أبقيتَ بالجود مطمعاً … ولا لذوي الحاجات في الناس راجيا

نَعَيْتَ إلى العلياء أَفلاذَ قلبِها … وأدميتَ منها مهجة ً ومآقيا

ومما يريعُ الرُّوحَ قولك بعده … لنفسي بنفسي خاطباً ومناجياً

فيا ليتني ذقتُ المنيَّة قلبه … ولم أَرَ فيه ما يشيب النواصيا

صروف المنايا العاديات كأنَّها … تخال الكرام الأنجبين أعاديا

قضى الله بالأمر الذي قد قضى به … وكان قضاء الله في الخلق جاريا

أقلِّبُ طرفي بالرجال وأغتدي … لنفسي خاطباً ومناجياً

تبدَّلتِ الشُّمُّ العرانين والتوتْ … بهم بدهى ً دهياء تُصمي المراقيا

ولم يَبْقَ في بغداد من لو فقدْتُهُ … أَسَيْتُ له أو كان للحزن آسيا

لقد زالت الشُّمُّ الرواسي فلم نبلْ … إذا زلزلتْ بعدَ الجبال الرواسيا

سُقِيتَ الغوادي طالما قد سَقَيْتَني … فما تُدْرَكُ الآمالُ إلاّ أمانيا

وحيّاك منهلٌّ من المزن رائحاً … وحيَّاك منهلٌّ من المزن غاديا

ترحَّات عنا لا ملالاً ولا قلى ً … وهل يعرف السلوانُ بعدك ساليا

وحال الثرى بيني وبينك بالردى … فما تدركُ الآمالُ إلاّ ما أمانيا

كأَنَّك لم تُولِ ولم تُنِل … جزيلاً ولم تطلق من الأسر عانيا

عزاءً بني عبد الغنيّ فإنّكم … فقدتم به ظلاً على الخلق ضافيا

ودِرعاً حصيناً يعلَمُ الله أنَّه … مدى الدهر لم يبرح من الدهر واقيا

بنى لكم المجد الأثيلَ الذي بنى … ولا تهدمُ الأيام ما كان بانيا

إذا بزغتْ منه نجومُ مناقبٍ … أباهي بساريها النجوم السوارايا

لِمَن أنظِمُ الشعر الذي دَقَّ لفظه … ورقَّ أساليباً وراق معانيا

وما كان يحلو لي القريض ونظمه … إذا لم يكن في ذكره الشعر حاليا

وأقسمُ لو لامستُ قبرك فالغنى … وحقّك مرجوُّ الحصول به ليا

أَخَذْتَ المزايا والمكارم كلّها … جميعاً فما أبْقَيْتَ للناس باقيا

… مَضَيْتَ ولم يُعْقِبْ لك الدهر ثانيا

يُراعُ بك الخطبُ المهولُ وتُنتَضى … على حادث الأيام عضباً يمانياً

وكم نعمة أوليتها وحسرة … غَدَوْتُ بها من لوعة البين شاكيا

إذا نَثَرتْ عيني عليك دموعَها … نظمتُ لأحزاني عليك القوافيا

وقد كنتُ أشتاق المدائِحَ قبلَها … وبعدك لا أشتاق إلاّ المراثيا