رُدِّي الْكَرَى لأَرَاكِ فِي أَحْلاَمِهِ – محمود سامي البارودي
رُدِّي الْكَرَى لأَرَاكِ فِي أَحْلاَمِهِ … إِنْ كَانَ وَعْدُكِ لاَ يَفِي بِذِمَامِهِ
أوْ فابعثي قلبي إليَّ ؛ فإنهُ … جَارَى هَوَاكِ، فَقَادَهُ بِزِمَامِهِ
قدْ كانَ خلفني لموعدِ ساعة ٍ … منْ يومهِ ، فقضى مسيرة َ عامهِ
لمْ أدرِ : هلْ ثابتْ إليهِ أناتهُ … أَمْ لَمْ يَزَلْ فِي غَيِّهِ وَهُيَامِهِ
عَهْدِي بِهِ صَعْبَ الْقِيَادِ. فَمَا لَهُ … أَلْقَى يَداً لِلسِّلْمِ بَعْدَ غَرَامِهِ
خَدَعَتْهُ سَاحِرَة ُ الْعُيُونِ بِنَظْرَة ٍ … منها ؛ فملكها عذارَ لجامهِ
يا ، هلْ يعودُ إلى الجوانحِ بعدما … سَلَبَتْ فَتَاة ُ الْحَيِّ ثِنْيَ لِجَامِهِ؟
تاللهِ ، لوْ ملكتْ يدايَ جماحهُ … لَعَقَدْتُ قَائِمَ رَسْنِهِ بِخِدَامِهِ
يا لائمَ المشتاقِ في أطرابهِ … مَهْلاً، إِليْكَ؛ فَلَسْتَ مِنْ لُوَّامِهِ
أظننتَ لوعتهُ فكاهة َ مازحٍ … فطفقتَ تعذلهُ على تهيامهِ ؟
إنْ كنتَ تنكرُ شجوهُ ، فانظرْ إلى … أَنْفَاسِهِ، وَدُمُوعِهِ، وَسَقَامِهِ
صبٌّ ، برتهُ يدُ الضنى ؛ حتى اختفى … عَنْ أَعْيُنِ الْعُوَّادِ غَيْرَ كَلاَمِهِ
نَطَقَتْ مَدَامِعُهُ بِسِرِّ ضَمِيرِهِ … وَذَكَتْ جَوَانِحُهُ بِنَارِ غَرَامِهِ
طَوْراً يُخَامِرُهُ الذُّهُولُ، وَتَارَة ً … يبكي بكاءَ الطفلِ عندَ فطامهِ
يصبو إلى َ بانِ العقيقِ ، وَ رندهِ … وَعَرَارِهِ، وَبَرِيرِهِ، وَبَشَامِهِ
وادٍ ، سرى في جوهِ كنسيمهِ … وَبَكَى عَلَى أَغْصَانِهِ كحَمَامِهِ
أَرِجُ النَّبَاتِ، كَأَنَّمَا غَمَرَ الثَّرَى … طيباً مرورُ ” الخضرِ ” بينَ إكامهِ
مَالَتْ خَمَائِلُهُ بِخُضْرِ غُصُونِهِ … وَصَفتْ مَوَارِدُهُ بِزُرْقِ جِمَامِهِ
يا صاحبي إنْ جئتَ ذياكَ الحمى … فَاحْذَرْ عُيُونَ الْعِينِ مِنْ آرامِهِ
وَاسْأَلْ عَنِ الْبَدْرِ الَّذِي كَسَمِيِّهِ … فِي نُورِ غُرَّتِهِ، وَبُعْدِ مَرَامِهِ
فَإِنِ اشْتَبَهْتَ، وَلَمْ تَجِدْ لَك هَادِياً … فَاسْمَعْ أَنِينَ الْقَلْبِ عِنْدَ خِيَامِهِ
فبذلكَ الوادي غزالة ُ كلة ٍ … تَرْوِي حَدِيثَ الْفَتْكِ عَنْ ضِرْغامِهِ
ضَاهَتْ بِقَامَتِها سرَاحَ قَنَاتِهِ … وَحَكَتْ بِلَحْظَتِهَا مَضَاءَ حُسَامِهِ
هيَ مثلهُ في الفتكِ ، أوْ هوَ مثلها … سِيَّانِ وَقْعُ لِحَاظِهَا وسِهَامِهِ
فَسَقَى الْحِمَى دَمْعِي ـ إِذَا ضنَّ الْحيَا … بجمانِ درتهِ سلافة َ جامهِ
مَغْنًى ، رَعَيْتُ بِهِ الشَّبِيبَة َ غَضَّة ً … وَرَوَيْتُ قَلْبِي مِنْ سُلاَفِ غَمَامِهِ
فنسيمُ روحي منْ أثيرِ هوائهِ … وَقِوَامُ جِسْمِي مِنْ مِزَاجِ رَغَامِهِ
لاَ يَنْتَهي شَوْقِي إِلَيْهِ. وَقَلَّمَا … يسلو حمامُ الأيكِ عنْ ترنامهِ
يا حبذا عصرُ الشبابِ ، وحبذا … رَوْضٌ جَنَيْتُ الْوَرْدَ مِنْ أَكْمَامِهِ
عصرٌ ، إذا رسمَ الخيالُ مثالهُ … فِي لَوْحِ فِكْرِي لاَحَ لِي بِتَمَامِهِ
إِنِّي لأَذْكُرُهُ، وَأَعْلَمُ أنَّنِي … باقٍ على َ التبعاتِ منْ آثامهِ
مَا كَانَ أَحْسَنَ عَهْدَهُ لَوْ دَامَ لِي … مِنْهُ الْوِدَادُ. وَكَيْفَ لِي بِدَوَامِهِ؟
وَ الدهرُ مصدرُ عبرة ٍ لوْ أننا … نَتْلُو سِجِلَّ الْغَدْرِ مِنْ آثامِهِ
عَمْرِي، لَقدْ رَحَلَ الشَّبَابُ، وَعَادَنِي … شَيْبٌ تَحَيَّفَ لِمَّتِي بِثَغَامِهِ