ردَّ الصبا بعدَ شيبِ اللمة ِ الغزلُ – محمود سامي البارودي

ردَّ الصبا بعدَ شيبِ اللمة ِ الغزلُ … وَراحَ بِالْجِدِّ مَا يَأْتِي بِهِ الْهَزَلُ

وَعَادَ مَا كَانَ مِنْ صَبْرٍ إِلَى جَزَعٍ … بَعْدَ الإِباءِ؛ وَأَيَّامُ الْفَتَى دُوَلُ

فَلْيَصْرِفِ اللَّوْمَ عَنِّي مَنْ بَرِمْتُ بِهِ … فليسَ للقلبِ في غيرِ الهوى شغلُ

وَ كيفَ أملكُ نفسي بعدَ ما ذهبتْ … يومَ الفراقِ شعاعاً إثرَ منْ رحلوا ؟

تَقَسَّمَتْنِي النَّوَى مِنْ بَعْدِهِمْ، وَعَدَتْ … عنهمْ عوادٍ ؛ فلا كتبٌ ، وَ لاَ رسلُ

فالصبرُ منخذلٌ ، وَ الدمعُ منهملٌ … وَالْعَقْلُ مُخْتَبِلٌ، وَالْقَلْبُ مُشْتَغِلُ

أرتاحُ إنْ مرَّ منْ تلقائهمْ نسمٌ … تَسْرِي بِهِ فِي أَرِيجِ الْعَنْبَرِ الأُصُلُ

ساروا ، فما اتخذتْ عيني بهمْ بدلاً … إِلاَّ الْخَيَالَ، وَحَسْبِي ذَلِكَ الْبَدَلُ

فَخَلِّ عَنْكَ مَلامِي يَا عَذُولُ، فَقَدْ … سرتْ فؤادي على ضعفٍ بهِ العللُ

لاَ تَحْسَبَنَّ الْهَوَى سَهْلاً؛ فَأَيْسَرُهُ … خَطْبٌ لَعَمْرُكَ لَوْ مَيَّزْتَهُ جَلَلُ

يَسْتَنْزِلُ الْمَلْكَ مِنْ أَعْلَى مَنَابِرِهِ … وَيَسْتَوِي عِنْدَهُ الرِّعْدِيدُ وَالْبَطَلُ

فكيفَ أدرأُ عنْ نفسي وَ قدْ علمتْ … أَنْ لَيْسَ لِي بِمُنَاوَاة ِ الْهَوَى قِبَلُ؟

فَلَوْ قَدَرْتُ عَلَى شَيْءٍ هَمَمْتُ بِهِ … فِي الْحُبِّ، لَكِنْ قَضَاءٌ خَطَّهُ الأَزَلُ

وَ للمحبة ِ قبلي سنة ٌ سلفتْ … فِي الذَّاهِبِينَ؛ وَلِي فِيمَنْ مَضَى مَثَلُ

فإنْ تكنْ نازعتني النفسُ باطلها … وَأَطْلَعَتْنِي عَلَى أَسْرَارِهَا الْكِلَلُ

فَقَدْ أَسِيرُ أَمَامَ الْقَوْمِ ضَاحِيَة ً … وَالْجَوُّ بِالْبَاتِرَاتِ الْبِيضِ مُشْتَعِلُ

بِكُلِّ أَشْقَرَ قَدْ زَانَتْ قَوَائِمَهُ … حُجُولُهُ غَيْرَ يُمْنَى زَانَها الْعَطَلُ

كَأَنَّهُ خَاضَ نَهْرَ الصُّبْحِ، فَانْتَبَذَتْ … يمناهُ وَ انبثَّ في أعطافهِ الطفلُ

زُرْقٌ حَوَافِرُهُ، سُودٌ نَوَاظِرُهُ … خُضْرٌ جَحَافِلُهُ، فِي خَلْقِهِ مَيَلُ

كأنَّ في حلقهِ ناقوس راهبة ٍ … باتتْ تحركهُ ، أوْ راعدٌ زجلُ

يَمُرُّ بِالْوَحْشِ صَرْعَى فِي مَكَامِنِهَا … فما تبينُ لهُ شدا ؛ فتنخذلُ

يرى الإشارة في وحى ؛ فيفهمها … وَ يسمعُ الزجرَ منْ بعدٍ ؛ فيمتثلُ

لاَ يملكُ النظرة َ العجلاءَ صاحبها … حتى تمرَّ بعطفيهِ فتحتبلُ

إنْ مرَّ بالقومِ حلوا عقدَ حبوتهمْ … وَ استشرفتْ نحوهُ الألبابُ وَ المقلُ

تَقُودُهُ بِنْتُ خَمْسٍ؛ فَهْوَ يَتْبَعُهَا … وَ يستشيطُ إذا ها هي بهِ الرجلُ

أُمْضِي بِهِ الْهَوْلَ مِقْدَاماً، وَيَصْحَبُنِي … ماضي الغرارِ إذا ما استفحلَ الوهلُ

يَمُرُّ بِالْهَامِ مَرَّ الْبَرْقِ فِي عَجَلٍ … وَقْتَ الضِّرَابِ، وَلَمْ يَعْلَقْ بِهِ بَلَلُ

تَرَى الرِّجَالَ وُقُوفاً بَعْدَ فَتْكَتِهِ … بِهِمْ، يُظَنُّونَ أَحْيَاءً وَقَدْ قُتِلُوا

كأنهُ شعلة ٌ في الكفَّ قائمة ٌ … تهفو بها الريحُ أحياناً ، وتعتدلُ

لولاَ الدماءُ التي يسقى بها نهلاً … لكادَ منْ شدة ِ اللألاءِ يشتعلُ

يَفُلُّ مَا بَقِيَتْ فِي الْكَفِّ قَبْضَتُهُ … كُلَّ الْحَدِيدِ وَلَمْ يَثْأَرْ بِهِ فَلَلُ

بَلْ رُبَّ سَارِيَة ٍ هَطْلاَءَ دَانِيَة ٍ … تَنْمُو السَّوَامُ بِهَا، وَالنَّبْتُ يَكْتَهِلُ

كأنَّ آثارها في كلَّ ناحية ٍ … ريطٌ منشرة ٌ في الأرض ، أو حللُ

يَمَّمْتُهَا بِرِفَاقٍ إِنْ دَعَوْتُ بِهِمْ … لبوا سراعا ، وَ إن أنزلْ بهمْ نزلوا

قصداً إلى الصيدِ ، لا نبغي بهِ بدلاً … وَ كلُّ نفسٍ لها في شأنها عملُ

حَتَّى إِذَا أَلْمَعَ الرُّوَّادُ مِنْ بَعَدٍ … وَ جاءَ فارطهمْ يعلو ويستفلُ

تغازتِ الخيلُ ، حتى كدنَ منْ مرحٍ … يذهبنَ في الأرضِ لولاَ اللجمُ وَ الشكلُ

فما مضتْ ساعة ٌ ، أوْ بعضُ ثانية ٍ … إِلاَّ وَلِلصَّيْدِ فِي سَاحَاتِنَا نُزُلُ

فكانَ يوماً قضينا فيهِ لذتنا … كما اشتهينا ؛ فلا غشٌّ ، وَ لاَ دغلُ

هذَا هُوَ الْعَيْشُ، لاَ لَغْوُ الْحَدِيثِ، وَلاَ … مَا يَسْتَغِيرُ بِهِ ذُو الإِفْكَة ِ النَّمِلُ

إنَّ النميمة َ وَ الأفواهُ تضرمها … نَارٌ مُحَرِّقَة ٌ لَيْسَتْ لَهَا شُعَلُ

فَاتْبَعْ هَوَاكَ، وَدَعْ مَا يُسْتَرَابُ بِهِ … فأكثرُ الناسِ إنْ جربتهمْ هملُ

وَاحْذَرْ عَدُوَّكَ تَسْلَمْ مِنْ خَدِيعَتِهِ … إنَّ العداوة َ جرحٌ ليسَ يندملُ

وَ عالجِ السرَّ بالكتمانِ تحمدهُ … فَرُبَّمَا كَانَ فِي إِفْشَائِهِ الزَّلَلُ

وَلاَ تَكُنْ مُسْرِفاً غِرّاً، وَلاَ بَخِلاً … فبئستِ الخلة ُ : الإسرافُ ، وَ البخلُ

وَ لا يهمنكَ بعضُ الأمرِ تسأمهُ … لا يَنْتَهِي الشُّغْلُ حَتَّى يَنْتَهِي الأَجَلُ

وَاعْرِفْ مَوَاضِعَ مَا تَأْتِيهِ مِنْ عَمَلٍ … فَلَيْسَ فِي كُلِّ حِينٍ يَحْسُنُ الْعَمَلُ

فالريثُ يحمدُ في بعض الأمورِ ، كما … في بعض حالاتهِ يستحسنُ العجلُ

هَذَا هُوَ الأَدَبُ الْمَأْثُورُ، فَارْضَ بِهِ … علماً لنفسكَ ؛ فالأخلاقُ تنتقلُ

منْ كلَّ بيتٍ إذا الإنشادُ سيرهُ … فليسَ يمنعهُ سهلٌ ، وَ لا جبلُ

لمْ تبنَ قافية ٌ فيهِ على َ خللٍ … كلا ، وَ لمْ تختلفْ في رصفها الجملُ

فلاَ سنادٌ ، ولا حشوٌ ، وَ لاَ قلقٌ … وَ لا سقوطٌ ، وَ لاَ سهوٌ ، وَ لا عللُ

تغايرتْ فيهِ أسماعٌ وَ أفئدة ٌ … فَكُلُّ نَادٍ «عُكَاظٌ» حِينَ يُرْتَجَلُ

لا تنكرُ الكاعبُ الحسناءُ منطقهُ … وَ لا يعادُ على قومٍ ، فيبتذلُ