ردوا عليَّ الصبا منْ عصريَ الخالي – محمود سامي البارودي

ردوا عليَّ الصبا منْ عصريَ الخالي … وَهَلْ يَعُودُ سَوَادُ اللِّمَة ِ الْبَالِي؟

ماضٍ منَ العيش ، ما لاحتْ مخايلهُ … في صفحة ِ الفكرْ إلاَّ هاجَ بلبالي ؟

سلتْ قلوبٌ ؛ فقرتْ في مضاجعها … بَعْدَ الْحَنِينِ، وَقَلْبِي لَيْسَ بِالسَّالِي

لمْ يدرِ منْ باتَ مسروراً بلذتهِ … أني بنارِ الأسى منْ هجرهِ صالي

يا غاضبينَ علينا هلْ إلى عدة ٍ … بالوصلِ يومٌ أناغي فيهِ إقبالي

غِبْتُمْ؛ فَأَظْلَمَ يَوْمِي بَعْدَ فُرْقَتِكُمْ … وَ ساءَ صنعُ الليالي بعدَ إجمالِ

قَدْ كُنْتُ أَحْسِبُني مِنْكُمْ عَلى ثِقَة ٍ … حتى منيتُ بما لمْ يجرِ في بالي

لَمْ أَجْنِ فِي الْحُبِّ ذَنْباً أَسْتَحِقُّ بِهِ … عتباً ، ولكنها تحريفُ أقوالِ

وَ منْ أطاعَ رواة َ السوءِ نفرهُ … عَنِ الصَّدِيقِ سَمَاعُ الْقِيلِ وَالْقَالِ

أدهى المصائبِ غدرٌ قبلهُ ثقة ٌ … وَأَقْبَحُ الظُّلْمِ صَدٌّ بَعْدَ إِقْبَالِ

لا عيبَ فيَّ سوى حرية ٍ ملكتْ … أعتني عنْ قبولِ الذلَّ بالمالِ

تبعتُ خطة َ آبائي ؛ فسرتُ بها … عَلى وَتِيرَة ِ آدَابٍ وَآسَالِ

فَمَا يَمُرُّ خَيَالُ الْغَدْرِ فِي خَلَدِي … وَلاَ تَلُوحُ سِمَاتُ الشَّرِّ فِي خَالِي

قلبي سليمٌ ، ونفسي حرة ٌ وَ يدي … مأمونة ٌ ، وَ لساني غيرُ ختالِ

لَكِنَّني فِي زَمَانٍ عِشْتُ مُغْتَرِباً … في أهلهِ حينَ قلتْ فيهِ أمثالي

بَلَوْتُ دَهْرِي؛ فَمَا أَحْمَدْتُ سِيرتَهُ … في سابقٍ من لياليهِ ، وَ لاَ تالي

حَلَبْتُ شَطْرَيْهِ: مِنْ يُسْرٍ، وَمَعْسُرَة ٍ … وَذُقْتُ طَعْمَيْهِ: مِنْ خِصْبٍ، وَإِمْحَالِ

فَمَا أَسِفْتُ لِبُؤْسٍ بَعْدَ مَقْدُرَة ٍ … وَ لاَ فرحتُ بوفرٍ بعدَ إقلالِ

عَفَافَة ٌ نَزَّهَتْ نَفْسِي؛ فَمَا عَلِقَتْ … بلوثة ٍ منْ غبارِ الذمَّ أذيالي

فاليومَ لا رسني طوعُ القيادِ ، ولاَ … قَلْبِي إِلَى زَهْرَة ِ الدُّنْيَا بِمَيَّالِ

لَمْ يَبْقَ لِي أَرَبٌ فِي الدَّهْرِ أَطْلُبُهُ … إلاَّ صحابة ُ حرًّ صادقِ الخالِ

وَأَيْنَ أُدْرِكُ مَا أَبْغِيهِ مِنْ وَطَرٍ … وَ الصدقُ في الدهرِ أعيا كلَّ محتالِ ؟

لا في ” سرنديبَ ” لي إلفٌ أجاذبهُ … فضلَ الحديثِ ، وَ لاَ خلٌّ ؛ فيرعى لي

أبيتُ منفرداً في رأس شاهقة ٍ … مثلَ القطاميَّ فوقَ المربإِ العالي

إذا تلفتُّ لمْ أبصرْ سوى صورٍ … فِي الذِّهْنِ، يَرْسُمُها نَقَّاشُ آمالِي

تهفو بيَ الريحُ أحياناً ، ويلحفني … بردُ الطلالِ ببردٍ منهُ أسمالِ

فَفِي السَّمَاءِ غُيُومٌ ذَاتُ أَرْوِقَة ٍ … وَ في الفضاءِ سيولٌ ذاتُ أوْ شالِ

كَأَنَّ قَوْسَ الْغَمَامِ الْغُرِّ قَنْطَرَة ٌ … معقودة ٌ فوقَ طامي الماءِ سيالِ

إذا الشعاعُ تراءى خلفها نشرتْ … بَدَائِعاً ذَاتَ أَلْوَانٍ وَأَشْكَالِ

فَلَوْ تَرَانِي وَبُرْدِي بِالنَّدَى لَثِقٌ … لخلتني فرخَ طيرٍ بينَ أدغالِ

غَالَ الرَّدَى أَبَوَيْهِ؛ فَهْوَ مُنْقَطِعٌ … فِي جَوْفِ غَيْنَاءَ، لاَ رَاعٍ، وَلاَ وَالِي

أزيغبَ الرأس ، لمْ يبدُ الشكيرُ بهِ … وَ لمْ يصنْ نفسهُ منْ كيدِ مغتالِ

كَأَنَّهُ كُرَة ٌ مَلْسَاءُ مِنْ أَدَمٍ … خَفِيَّة ُ الدَّرْزِ، قَدْ عُلَّتْ بِجِرْيالِ

يظلُّ في نصبٍ ، حرانَ ، مرتقباً … نَقْعَ الصَّدَى بَيْنَ أَسْحَارٍ وآصَالِ

يكادُ صوتُ البزاة ِ القمرِ يقذفه … مِنْ وَكْرِهِ بَيْنَ هَابِي التُّرْبِ جَوَّالِ

لا يستطيعُ انطلاقاً منْ غيابتهِ … كأنما هوَ معقولٌ بعقالِ

فذاكَ مثلي ، وَ لمْ أظلمْ ، وربتما … فضلتهُ بجوى حزنٍ ، وإعوالِ

شَوْقٌ، وَنَأْيٌ، وَتَبْرِيحٌ، وَمَعْتَبَة ٌ … يا للحمية ِ منْ غذري وإهمالي

أصبحتُ لا أستطيعُ الثوبَ أسحبهُ … وَقَدْ أَكُونُ وَضَافِي الدِرْعِ سِرْبَالِي

وَ لاَ تكادُ يدي شبا قلمي … وَكَانَ طَوْعَ بَنَانِي كُلُّ عَسَّالِ

فَإِنْ يَكُنْ جَفَّ عُودِي بَعْدَ نَضْرَتِهِ … فَالدَّهْرُ مَصْدَرُ إِدْبَارٍ وَإِقْبَالِ

وَإِنْ غَدَوْتُ كَرِيمَ الْعَمِّ وَالْخَالِ … بصدقِ ما كانَ منْ وسمي وَ إغفالي

راجعتُ قهرسَ آثاري ، فما لمحتْ … بصيرتي فيهِ ما يزري بأعمالي

فَكَيْفَ يُنْكِرُ قَوْمِي فَضْلَ بَادِرَتِي … وَقَدْ سَرَتْ حِكَمي فِيهِمْ، وَأَمْثَالِي؟

أنا ابن قولي ؛ وحسبي في الفخارِ بهِ … وَ إنْ غدوتُ كريمَ العممَّ وَ الخالِ

وَلِي مِنَ الشِّعْرِ آيَاتٌ مُفَصَّلَة ٌ … تلوحُ في وجنة ِ الأيامِ كالخالِ

ينسى لها الفاقدُ المحزونُ لوعتهُ … و يهتدى بسناها كلُّ قوالِ

فانظرْ لقولي تجدْ نفسي مصورة ً … فِي صَفْحَتَيْهِ؛ فَقَوْلِي خَطُّ تِمْثَالِي

وَ لاَ تغرنكَ في الدنيا مشاكلة ٌ … بينَ الأنامِ ؛ فليسَ النبعُ كالضالِ

إِنَّ ابْنَ آدَمَ لَوْلاَ عَقْلُهُ شَبَحٌ … مُرَكَّبٌ مِنْ عِظَامٍ ذَاتِ أَوْصَالِ