رؤيا في عام 1956 – بدر شاكر السياب

حطت الرؤيا على عينيّ صقرا من لهيب
إنها تنقضّ تجتثّ السواد
تقطع الأعصاب تمتص القذى من كل
جفن فالمغيب

عاد منها توأما للصبح أنهار المداد
ليس تطفي غلة الرؤيا صحارى من نحيب
من حجور تلفظ الأشلاء هل جاء المعاد
أهو بعث أهو موت أهي نار أم رماد

أيها الصقر الإلهي الغريب
أيها المنقض من أولمب في صمت المساء
رافعا روحي لأطباق السماء
رافعا روحي غنيميدا جريحا

صالبا عيني تموزا مسيحا
يها الصقر الإلهي ترفّق
إن روحي تتمزق
إنها عادت هشيما يوم أن أمسيت ريحا

في غيمة الرؤيا
يوم بلا ميعاد
جنكيز هل يحيا
جنكيز في بغداد

عين بلا أجفان
تمتد من روحي
شدق بلا أسنان
ينداح في الريح
يعوي أنا الأنسان

2

يا جوادا راكضا يعدو على جسم الطريح
ياجوادا ساحقا عينيّ بالصخر السنابك
رابطا بالأربع الأرجل قلبي

فإذا بالنبض نقر للدرابك
و إذا بالنار دربي
سحّت الرؤيا ضياء من لظاها
صابغا ما تبصر العين القريح

مازجا بالشيء ظلّه
خالطا فيها يهوذا بالمسيح
مدخلا في اليوم ليله
بانيا في عروة المهد الضّريح

الدماء
الدماء
الدماء
وحّدت بالمجرمين الأبرياء
نصبت في شدقي الذئبة كرّسي القضاء

ماذا جنى شعبي
حلت به اللعنة
من زاده المحنة

رحماك يا ربي
من مائة الديدان
من لبسه الأكفان

من طيره الغربان
ينقرن في قلبي
و اليوم في بيدري

لم يبق من حبي
شيء هنا حبتان
فأمطري أمطري
و إن يكن نيران

و أثمري أثمري
و إن يكن ثعبان

3

ما الذي يبدو على الأشجار حولي من ظلال
منجل يجتثّ أعراق الدوالي
قاطعا أعراق تموز الدفينة
و على القنب أشلاء حزينة

رأس طفل سابح في دمه
نهد أم تنقر الديدان فيه في سكينة
أي آه من دم في فمه
ما الذي ينطف من حلمته من لحمه

يا حبال القنب التفي كحيات السعير
و اخنقي روحي و خلي الطفل و الأم الحزينة
يا حبالا تسحب الموتى إلى قبر كبير
جفنة قد هيّأوها للوليمة

يا حبالا تسحب الأحياء من شيخ كبير
من فتاة أو عجوز من ضلوع حطموها
علقت فيها تميمة
من صدور مزّقوها

زرعوا فيها بذورا من رصاص من حديد
ما الذي تثمر هاتيك البذور
غير أحجار القبور
غير تفاح الصديد

4

تموز هذا أتيس
هذا و هذا الربيع
يا خبزنا يا أتيس
أنبت لنا الحب و أحي اليبيس

إلتأم الحفل و جاء الجميع
يقدّمون النذور
يحيون كل الطقوس
و يبذرون البذور

سيقان كل الشجر
ضارعة و النفوس
عطشى تريد المطر
شدوا على كل ساق

يا رب تمثالك
فلتسق كل العراق
فلتسق فلاحيك عمالك

شدوا على كل ساق

أواه ما شدّوا
أواه ما سمروا
أغصان زيتوننا أثقلها الورد
ورد الدم الأحمر

شدوا على كل ساق
يارب تمثالك
فاسمع صلاة الرفاق
و لترع فلاحيك عمالك

تمثالك البعل
تمثالك الطفل
تمثالك العذراء
تمثالك الجانون و الأبرياء

تمثالك الأمّ الشمالية
لأنها ليست شيوعية
يقطع نهداها
تسمل عيناها

تصل صلبا فوق زيتونة
تهزها الريح الجنوبية
تمثالك الآلاف مجنونة
من رعبها تمثالك الأحمر
كأنه الشقيق إذ يزهر

5

عشتار على ساق الشجرة
صلبوها دقوا مسمارا
في بيت الميلاد الرّحم
عشتار بحفصة مستترة

تدعى لتسوق الأمطارا
تدعى لتساق إلى العدم
عشتار العذراء الشقراء مسيل الدم
صلّوا هذا طقس المطر

صلّوا هذا عصر الحجر
صلوا بل أصلوها نارا
تموز تجسّد مسمارا
من حفصة يخرج و الشجرة

لنهد الأعذر فاض ليطعم كل فم
خبز الألم
الأقة صاح القصّاب
من هذا اللحم بفلسين

إقطع من لحم النهدين
اللحم لنا و الأثواب
ستكون لمسح السكينة
من آثار دم الأطفال

من آثار دم المسكّينة
فتلحي زنود العمال
في قلبي دمدم زلزال
فجنائن بابل تندثر

في قلبي يصرخ أطفال
في قلبي يختنق القمر
الظلمة تعبس في قلبي
و الجو رصاص

و الريح تهب على شعبي
و الريح رصاص
أواه لقد هجم التتر
فالصبح رصاص
و الليل رصاص

6

الرؤيا تلمح كالقلع
في بحر يزبد غضبانا
طوراً للأغوار و أحيانا
يعلو فنراه و في سمعي

أصداء تصمت أو تعلو
و بياني يغمض أو يجلو
أي حشد من وجوه كالحات
من أكفّ كالتراب

نبتها الآجرّ و الفولاذ كالأرض اليباب
أي حشد من ذئاب
يطعمون الجو ريح المعمل
أي نعش أي شكوى أي دمع من نساء ثاكلات

أي جمع من عذارى نادبات
أي موت مثكل
يا لعشتاراتنا يبكين تموز القتيل
ألعازر قام من النعش

شخنوب العازر قد بعثا
حيا يتقافز أو يمشي
كم ظلّ هناك و كم مكثا

أترى عاما أم عامين
أم دامت ميتته ساعة
شخنوب العامل من راعه

فتنكر للدينارين
و تواثب يركض مذعورا
الموت الزائف خاتمة

لحياة زائفة مثله
و البعث الزائف عاقبة
للموت الزائف من قبله

7

و لفني الظلام في المساء
فامتصت الدماء
صحراء نومي تنبت الزهر
فإنما الدماء
توائم المطر