خَلا القصْرُ مِمنْ كان يَمْلأُهُ بِشْرا – خليل مطران

خَلا القصْرُ مِمنْ كان يَمْلأُهُ بِشْرا … وَجَلَّلَ حُزْنُ رَوْضَةَ القَصْرِ والقَصْرَا

فَتى الخلُقِ العَالِي وَمَا طَالَ عَهْدُهُ … أَعَافَ اصْطِحَابَ النّاسِ فاصْطحَبَ الزُّهْرا

مَشَتْ مِصْرُ فِي تَشِييعِهِ وَتدَفَّقَتْ … وَفُودٌ إِلى الفُسطَاطِ زَاخِرَةٌ زَخْرَا

أَعَاظِمُهَا خلْفَ الجِنازةِ خُشَّعُ … يُوَاكِبُهُمْ شعْبٌ مَحَاجِرُهُ شَكْرَى

كَإِكْرَامِهِمْ خَيْرَ الأُبُوَّةِ قَبْلَهُ … لَقَدْ أَكْرَمُوا خَيْرَ البَنِينَ ومَن أَحْرَى

يُعِيدُونَ ذِكْرَ الأَصْلِ فِي ذِكْرِ فَرعِهِ … وَتِلْكَ لَعُمْرِي سِيرَةٌ تَبْعَثُ الفَخْرَا

أَحَادِيثُهَا تُذْكِي عَزائِمَ مَن وَعَى … وَتَتْرُكُ فِي الأَلْبَابِ مِنْ بَعْدِهَا أَثْرَا

إِذَا مَا اسْتَعَرْنا ضَوْءَهَا فَكأَنَّنّا … فَتَحْنَا بِهِا لِلْقَابِسِ المُهْتَدِي سِفْرَا

حَبِيبُ نَحَا نَحْوَ العُلى وَهْوَ يَافِعٌ … وَلَمْ يَثْنِهِ أَنْ كَان مَسْلَكُهَا وَعْرَا

فَأقْدَمَ إِقْدَامَ الَّذِي رَاضَ نَفْسَه … عَلى الصَّعْبِ وَاعْتَدَّ الشَّجَاعَةَ وَالصَّبْرَا

يُؤَثِّلُ بِالرُّوحِ العِصَامِيِّ جَاهُهُ … فَإِمَّا تَجَنَّى دَهرُهُ كَافَح َالدَّهْرَا

عَليِماً بِأَنَّ الحَيَّ لاَ يُدْرِكُ المُنَى … إِذا هُوَ لَمْ يَقْتُلْ نَصَاريفَه خُبْرَا

فَآبَ امرَأً فِي جِيلِهِ نسْجَ وَحْدِهِ … يُخَافُ وَيُرْجَى مِنْهُ مَا سَاءَ أَو سَرَّا

وبَلَّغَهُ أَقْصَى الأَمانِيِّ أَنَّهُ … بِأَخْلاقِهِ أَثْرَى وَأَمْوَالِهِ أَثْرَى

أَتاحَتْ لَهُ عُقْبَى الجِّهَادِ إِمَارَةً … وَفِي بِيعَةِ اللّهِ الَّتي شَادَهَا قَرَّا

وَحَالفَهُ التَّوْفِيقُ فِي الْعَيْشِ وَالرَّدَى … فَطابَت لَهُ الدُّنْيَا وَطَابَتْ لهُ الأُخْرَى

فَلَمَّا تَولَّى وَطَّدَ اللّهُ بَيْتهُ … بِأَعْقابِ خيْرٍ شرفوا البَيْتَ وَالنجْرا

ثَلاثَةُ أَقْيَالٍ تَمَثَّلَ فِيهِم … أَبُوهُمْ وَلَمْ يَأْلُوهُ حُبّاً وَلا بِرّاً

ترَاهُمْ فَفِي كُلٍّ تَرَى مِنْ أَبِيهِمُ … مَلامِحَهُ الغَرَّاءَ وَالشِّيَمَ الزُّهْرَا

وَكَانُوا مِثَالاً لِلأُخُوَّةِ يُحْتَذى … وقُدْوَةَ مَنْ يَرْعَى القَرَابَةَ وَالأَصْرَا

فَيَا لِلأَسَى أَنْ فَرّقَ اليَوْمَ بَيْنهُمْ … زَمَانٌ إِذا أَلْفَى وَفاءً رَمَى غَدْرا

دوَى أَنْضَرُ الإِخْوَانِ قَبْلَ أَوانِهِ … فَأَيَّةُ رِيحٍ صَوَّحَتْ عُودَهُ النضْرَا

وَأَوْدَت بِمِلءِ العَينِ أَرْوَعَ بَاذِخٍ … سَمَا كلَّ نِدٍّ هَامَةً وَسمَا قدْرَا

سَرِيٍ مِنَ الغُرّ المَيَامِينِ نَابِهٍ … بِهِ كِبَرٌ حَقٌّ وَمَا يعْرِفُ الكِبْرا

هُمامٍ رَمَى أَسْمَى المَرَامِي وَلَمْ يَكَدْ … طَمُوحٌ إِلى مَجْدٍ يُجَارِيهِ فِي مَجْرَى

لَهُ مَرْجِعٌ فِي أَمرِهِ حُكْمُ نَفْسِهِ … وَمَنْ لمْ يُحرِّرْ نَفْسَهُ لَمْ يَكنْ حُرَّا

صَبِيحِ المُيحَّا أَرِيَحِيٍ مُحَبَّبٍّ … إِلى الخَلْقِ لاَ كَيْداً يُكِنُّ وَلا مَكْرَا

يَلُوحُ لَهُ سِرُّ النَّجِي فِرَاسَة … وَيأْبَى عَلَيْهِ النُّبْلُ أَنْ يَكْشِفَ السِّرَّا

جَهِيرٍ بإِلقاءِ الكَلامِ مُصَارِحٍ … وَفِيمَا عَدا إِحْسانَهُ يُؤْثِرُ الجَهْرَا

وَليْسَ كَظِيمَ الغَيْظِ لَكِنَّهُ إِذَا … شَفَاهُ بعَتْبٍ لَمْ يَضِقْ بِأَخٍ صَدْرَا

وَلَيسَ بِهَيَّابٍ وَلا مُتَرَدِّدٍ … إِذَا حَدَّثَتْهُ نَفْسُهُ فَنوَى أَمْرَا

وَفِي كلِّ حَالٍ يَفْعَلُ الفِعْلَ كَاملاً … وَلا يَسْتَشيرُ الحِرْصَ أَوْ يَنْتَهِي حِذْرَا

يُرَى تَارَةً كاللَّيْثِ إِنْ هِيجَ بَأْسُهُ … وَآناً يُرَى كالغَيْثٍ مِنْ رَحْمَةٍ ثَرا

فَمَا هُوَ بِالسَّاعِي إِلى الشَّرِّ بَادِئاً … وَمَا هُوَ بِالوَاهِي إِذَا دَفَعَ الشَّرَّا

وَأَمَّا أَياِيهِ فَليْسَ أَقلُّها … وَقَدْ ذاعَ مِمَّا نَسْتَطِيعُ لَهُ حَصْرَا

أَفِي معْهَدٍ لِلْبِرِّ لَمْ يَكُ جُهْدُهُ … عَلى قَدْرِ مَا يُرجَى وَآلاؤُهُ تَتْرى

أَلَمْ يَمْنحِ الآدَابَ وَالعِلْمَ عَوْنَهُ … وَمَا يَبْتِغي مِنْ غَيْرِ خالِقِهِ أَجْرَا

أَلَمْ يَرْعَ شَأْنَ المُسْتَمِدِّينَ رِزْقَهُم … مِنَ الكَدِّ زُرَّاعاً يَكُونُونَ أَوْ تَجْرَا

أَلَمْ يُعْطِ بِالبَذْلِ الْوَجَاهَةَ حَقَّهَا … وَكمْ يَتَناسَى الحَقَّ مَنْ أَعْطِيَ الوَفْرا

تَظل وُفُودُ النَّاسِ تَغْشَى رِحَابَهُ … وَيُسْرِفُ فِي الأَنْعَامِ غِلْمَانُهُ نَحْرَا

فرَبُّ الحِمَى يَسْتَقْبِلُ الضَّيْفَ مبشِراً … وَرَوْضُ الحِمَى يَسْتَقْبِلُ الضَّيْفَ مُغْتَرا

فَضائِلُ زَادَتْهَا سَناءً وَرَوْعَةً … جَلائِلُ مَا يَأْتِيهِ فِي حُبِّهِ مِصْرَا

إِذَا مَا دَعَا داعِي الحِفاظِ أَجَابَهُ … مُجِيبٌ يَرَى التَّفرِيطَ فِي حَقِّهِ كُفْرَا

سَلِ العُرْبَ عَنْهُ مِن مُلوكٍ وَفى لَهُمْ … وَفَى دَينَ لِلأَوْطَانِ لَمْ يَأْلُهُمْ نَصْرَا

بِنَفسِ هَمَامٍ لا تَرَى عِنْدَ نفْسِهَا … لإِخَفاقِهِ عُذْراً وَإِنْ أَبْلَتِ العُذْرَا

عَزَاءَ الشَّقِيقَيْنِ الحَزِينينِ هكَذا … جَرَى الأَمْرُ وَالأَحْجَى مَنْ امْتَثلَ الأَمْرا

وَغيْرُ كَثِيرٍ أَن نُرَجِّيَ مِنْهُمَا … مَآثِرَ تُبْقِيهِ بِإِبْقَائِها الذِّكرَى

عزَاءَكِ يَا أَوْفى الشَّقِيقَاتِ وَارْفُقِي … بِقَلْبٍ رَفِيقٍ فِيهِ أَذْكَى الأَسَى جَمْرا

أَمَا كانَ ذاكَ القَلْبُ وَالعَقْلُ نُورُهُ … لِقَلْبِ أَخِيكِ المُوئِلَ الهادي الطَّهْرَا

فَقِيدَ الَمعالي وَالمُرُوءَاتِ وَالنَّدَى … وَحُلْوَ السجَايَا إِن حَلا العَيْشُ أَو مَرَّا

أَتيْتَ أَمُوراً فِي الحَيَاةِ كَبِيرَةً … وَكَان سُمُوُّ النَّفْسِ آيَتَهَا الكُبْرَى

أَتَشْهَدُ هَذَا الجَّمْعَ مِنْ صَفْوَةِ الحِمَى … وَأَجْفَانُهُمْ تَهْمِي وَأَنْفَاسُهُمْ حَرَّى

لَكَ الصَّدْرُ قَبْلَ اليَوْمِ وَالقَوْلُ بَيْنَهُمْ … فَقَدْ حَلَّ رَسْمٌ صَامِتٌ دُونَكَ الصَّدْرَا

فَدَيْتُ صَفِيّاً أَصْحَبُ العُمْرَ بَعْدَهُ … وَمَا حَالُ مَفْقُودِ المُنَى يَصْحَبُ العُمْرَا

سَتَحْيَا بِقَلْبِي مَا حَيَيْتُ فإِنْ أَمُتْ … سَتَحْيَا بِشِعْرِي مَا رَوَى النَّاسُ لي شِعْرا