حفار القبور – بدر شاكر السياب
ضوء الأصيل يغيم كالحلم الكئيب على القبور … واه كما ابتسم اليتامى أو كما بهتت شموع
في غيهب الذكرى يهوم ظلهن على دموع … والمدرج النائي تهب عليه أسراب الطيور
كفان جامدتان أبرد من جباه الخاملين … وكأن جولهما هواء كان في بعض اللحود
في مقلة جوفاء خاوية يهوم في ركود … كفان قاسيتان جائعتان كالذئب السجين
وعلام تنعب هذه الغربان والكون الرحيب … باق يدور يعج بالأحياء مرضى جائعين
بيض الشعور كأعظم الأموات لكن خالدين … لا يهلكون علام تنعب ان عزرائيل مات
يا رب أسبوع طويل مر كالعام الطويل … والقبر خاو يفغر الفم في انتظار في انتظار
ما زلت أحفرةه وبطمر الغبار … تتثاءب الظلماء فيه ويرشح القاع البليل
مما تعصر أعين الموتى وتنضحه الجلود … تلك الجلود الشاحبات وذلك اللحم النثير
حتى الشفاءه يمص من دمها الثرى حتى النهود … تذوي ويقطر في ارتخاء من مراضعها المغير
واها لهاتيك النواهد والمآقي والشفاه … واها لأجساد الحسان أيأكل الليل الرهيب
والدود منها ما تمناه الهوى واخيبتاه … كم جثة بيضاء لم تفتضها شفتا حبيب
هل كان عدلا أن أحن إلى السراب و لا أنال … إلا الحنين و ألف أنثى تحت أقدامي تنام
أفكلما اتقدت رغاب في الجوانح شح مال … ما زلت أسمع بالحروب فأين أين هي الحروب
يرقص حولي لا عبات بالضصنوج و بالسيوف … نبئت عن حرب تدور لعل عزرائيل فيها
في الليل يكدح و النهار فلن يمر على قرانا … أو بالمدينة و هي توشك أن تضيق بساكنيها
نبئت أن القاصفات هناك ما تركت مكانا … إلا وحل به الدمار فأي سوق للقبور
حتى كأن الأرض من ذهب يضاحك حافريها … حتى كأن معاصر الدم دافقات بالخمور
أواه لو أني هناك أسد باللحم النثير … جوع القبور و جوع نفسي في بلاد ليس فيها
إلا أرامل أو عذارى غاب عنهن الرجال … وافتضهن الفاتحون إلى الذماء كما يقال
مازلت أسمع بالحروب فما لأعين موقديها … لا تستقر على قرانا ليت عيني تلتقيها
و تخضهن إلى القرار و كالنيازك و الرعود … تهوي بهن على النخيل على الرجال على المهود
حتى تحدق أعين الموتى كآلاف اللآلي … من كل شبر في المدينه ثم تنظم كالعقود
في هذه الأرض الخراب فيا لأعينها و يا لي … رباه إني أقشعر أكاد أسمع في الخيال
تنثال من مقهى فأنصت في الزحام و ينصتون … و كأن ما بيني و بين الآخرين من الهواء
ثدي سخي بالحليب و بالمحبة و الأخاء … يا رب أسبوع يمر و لست أسمع من غناء
واخيبتاه ألن أعيش بغير موت الآخرين … و الطيبات من الرغيف إلى النساء إلى البنين
هي منة الموتى علي فكيف أشفق بالأنام … فلتمطرنهم القذائف بالحديد و بالضرام
المزدهين من الحديد بما يطير و ما يذيع … مهما ادنأت فلن أسف كما أسفوا لي شفيع
أني نويت و يفعلون و إن من يئد البنين … و الأمهات و يستحل دم الشيوخ العاجزين
لأحط من زان انتهك الغزاة و ما استباحوا … و القاتلون هم الجناه و ليس حفار القبور
و هم الذين يلونون لي البغايا بالخمور … و هم المجاعة و الحرائق و المذابح و النواح
و هم الذين سيتركون أبي وعمته الضريره … بين الخرائب ينبشان ركامهن عن العظام
و سيوثقون بشسعر أختي قبضتي و كالظلام … و كخضة الحمى تسمرها على دمها صدور
تعلو و تهبط باللهاث كأنهن رحى تدور … يا مجرمون إلى الوراء فسوف تنتفض القبور
و تقيء موتاها و يا موتي على اسم الله ثورا … رباه عفوك إن قابيل المكبل بالحديد
ألوانه المترنحات كأنما اعتصر المغيب … فيها قواه و ذاب فيها كوكب واهي الضياء
حتى إذا انهال التراب و صفح القبر الجديد … و تراعش الألق الضئيل على الظهور المتعبات
حتى اضمحل و غيبتها ظلمة الأفق البعيد … كانت مصابيح السماء تذر ضوءا كالضباب
يرنو إلى الدرب المنقط بالمصابيح الضئال … و تحركت شفتاه في بطء و غمغم في انخذال
أظننت أنك سوف تقتحم المدينه كالغزاه … كالفاتحين و تشتريها بالذي ملكت يداك
بأقل من ثمن الطلاء القرمزي على شفاه … أو في أظافر لاحقتها ذات يوم مقلتاك
سأعود لانهد تعصره يدي حتى الذهول … حتى التأوه و الأنين و صرخة الدم في العروق
و السكرة العمياء و الخدر المضعضع و الأفول … و الأذرع المتفترات يلون الضوء الخفوق
و تألق الجيد الشهي و لفحة النفس البهير … و النور منفلتا من ال|أهداب تثقله الطيوب
قلقا كمصباح السفينه راوحته صبا لعوب … و تخافق الأظلال في دعة ووسوسة الحرير
و الحلمتان أشد فوقهما بصدري في اشتهاء … حتى أحسهما بأضلعي و أعتصر الدماء
باللحم و الدم و الحنايا منهما لا باليدين … حتى تغيبا في صدري إلى غير انتهاء
لولا التماعات الكواكب و انعكاس من ضياء … تلقيه نافذة ووقع خطى تهاوى في عياء
يصدى له الليل العميق و حارس تعب يعود … و سنان يحلم بالفراش و زوجه تذكي السراج
و تؤجج التنور صامته و أخيلة اللهيب … تضفي عليها ما تشاء من اكتئاب و ابتهاج
ثم اضمحل الحارس المكدود و النغم الرتيب … وقع الخطى المتلاشيات كأنه الهمس المريب
أأظل أحلم بالنعوش وأنفض الدرب البعيد … بالنظرة الشزراء واليأس المظلل بالرجاء
يطفو ويرسب والسماء كأنها صنم بليد … لا مأمل في مقلتيه ولا شواظ ولا رثاء
لو أنها انفجرت تقهقه بالرعود القاصفات … لو أنها انكمشت وصاحت كالذئاب العاويات
فات الأوان فخط لحدك واثو فيه إلى النشور … لو أنها انطبقت علي كأنها فم أفعوان
في آخر الأفق البعيد و لألأت قطرات نور … مما تبعثره المدينة و هي تبسم في فتور
و كأنما رضعت مصابيح المدينة مقلتاه … فسرت لهيبا في دماه و ألغمتها بالرغاب
و كأنهن على المدى المقرور آلاف الشفاه … تدعوه ظمأى لاهثات مثل أحداق الذئاب
لا بد من هذا وصوب مقلتيه إلى السماء … حنقا يزمجر ثم أطرق و هو يحلم بالقاء
باب تفتح في الظلام و ضحكة و شذى ثقيل … ويدان تجتذبان أغطية السرير و ترخيان
يكتظ بالأشباح زاحفة إليه على اتئاد … فيصيح من فرح سألقاها فإن الطريق
نعشا و إن حف النساء به و أملق حاملوه … إني سألقاها و ينهض و هو يرفع باليمين