تلاهيت إلا ما يجن ضمير- محمود سامي البارودي

تَلاهَيْتُ إِلاَّ ما يُجِنُّ ضَمِيرُ … وَدَارَيْتُ إِلاَّ مَا يَنِمُّ زَفِيرُ

وَهَلْ يَسْتَطِيعُ الْمَرْءُ كِتْمَانَ أَمْرِهِ … وفى الصَّدرِ مِنهُ بارِحٌ وسَعيرُ ؟

فيا قاتلَ اللهُ الهوى ، ما أشدَّهُ … عَلى الْمَرْءِ إِذْ يَخْلُو بهِ فَيُغِيرُ

تَلينُ إليهِ النَّفسُ وَهى َ أبيَّة ٌ … وَيَجْزَعُ مِنْهُ الْقَلْب وَهْوَ صَبُورُ

نَبَذْتُ لَهُ رُمْحي، وَأَغْمَدْتُ صَارِمِي … وَنَهْنَهْتُ مُهْرِي، والْمُرادُ غَزِيرُ

وَأَصْبَحْتُ مَفْلُولَ الْمَخَالِبِ بَعْدَمَا … سَطوتُ وَلى فى الخافِقينِ زَئيرُ

فَيا لَسراة ِ القومِ دَعوة ُ عائذٍ … أَمَا مِنْ سَمِيعٍ فِيكُمُ فَيُجِيرُ؟

لَطَالَ عَليَّ اللَّيْلُ حَتَى مَلِلْتُهُ … وعَهدِى بهِ فيما عَلِمتُ قصيرُ

أَلا، فَرَعَى اللَّهُ الصِّبَا، مَا أَبَرَّهُ … وحيَّا شَباباً مَرَّ وَهوَ نَضيرُ

إِذِ الْعَيْشُ أَفْوَافٌ، تَرِفُّ ظِلالُهُ … عَلينا ، وسَلسالُ الوَفاءِ نَميرُ

وَإِذْ نَحْنُ فيما بَيْنَ إِخْوَانِ لَذَّة ٍ … عَلى شِيَمٍ مَا إِنْ بِهِنَّ نَكِيرُ

تَدُورُ عَلَيْنَا الْكَأْسُ بَيْنَ مَلاعِبٍ … بِها اللَّهْوُ خِدْنٌ، وَالشَّبَابُ سَمِيرُ

فَأَلْحَاظُنَا بَيْنَ النُّفُوسِ رَسَائلٌ … وريحانُنا بينَ الكئوسِ سَفيرُ

عَقدنا جناحَى ليلِنا بنهارِنا … وطِرنا معَ اللذَّات حيثُ تَطيرُ

وقُلنا لِساقينا أدِرها، فإنَّما … بَقاءُ الفتى بَعدَ الشَبابِ يَسيرُ

فَطافَ بِها شَمسيَّة ً لَهبيَّة ً … لَهَا عِنْدَ أَلْبَابِ الرِّجالِ ثُئُورُ

إذا ما شَرِبناها أقمنا مَكاننا … وَظَلَّتْ بِنَا الأَرْضُ الْفَضَاءُ تَدُورُ

وَكَمْ لَيْلَة ٍ أَفْنَيْتُ عُمْرَ ظَلاَمِها … إِلى أَنْ بَدَا للِصُّبْحِ فيهِ قَتِيرُ

شَغَلْتُ بِها قَلْبِي، وَمَتَّعْتُ نَاظِرِي … ونَعَّمتُ سَمعى والبَنانُ طَهورُ

صَنَعتُ بِها صُنعَ الكَريمِ بِأهلهِ … وجِيرتهِ ، والغادِرونَ كثيرُ

فَمَا رَاعَنَا إِلاَّ حَفِيفُ حَمَائِمٍ … لَها بينَ أطرافِ الغُصونِ هَديرُ

تُجَاوِبُ أَتْرَاباً لَهَا فِي خَمَائِلٍ … لَهُنَّ بِها بَعدَ الحَنينِ صَفيرُ

نَوَاعِمُ لا يَعْرِفْنَ بُؤْسَ مَعِيشَة ٍ … ولا دائراتِ الدَهرِ كَيفَ تَدورُ

تَوَسَّدُ هَامَاتٌ لَهُنَّ وَسَائِداً … مِنَ الرِّيشِ فِيهِ طَائِلٌ وَشَكِيرُ

كَأنَّ على أعطافِها مِن حَبيكِها … تَمائمَ لَم تُعقَد لَهُنَّ سُيورُ

خَوَارِجُ مِنْ أَيْكٍ، دَواخِلُ غَيْرِهِ … زَهاهنَّ ظِلٌّ سَابِغٌ وغَديرُ

إذا غازَلَتها الشَمسُ رفَّت ، كأنَّما … على صَفحتيها سُندسٌ وَحريرُ

فلمَّا رَأيتُ الصُبحَ قَد رفَّ جِيدهُ … وَلَمْ يَبْقَ مِنْ نَسْجِ الظَلامِ سُتُورُ

خَرَجْتُ أَجُرُّ الذَّيْلَ تِيهاً، وَإِنَّمَا … يَتِيهُ الْفَتَى إِنْ عَفَّ وَهْوَ قَدِيرُ

وَلِي شِيمَة ٌ تَأْبَى الدَّنَايَا، وَعَزْمَة ٌ … تَرُدُّ لُهامَ الجيشِ وَهوَ يَمورُ

إِذَا سِرْتُ فَالأَرْضُ الَّتِي نَحْنُ فَوْقَهَا … مَرادٌ لِمُهرِى ، والمَعاقِلُ دُورُ

فَلا عَجبٌ إن لَم يَصُرنى مَنزِلٌ … فَليسَ لِعِقبانِ الهَواءِ وُكورُ

هَمامَة ُ نَفسٍ ليسَ يَنقى رِكابَها … رَواحٌ عَلى طُولِ المَدى وبُكورُ

مُعَوَّدة ٌ ألاَّ تَكفَّ عِنانَها … عَنِ الجِدِّ إلاَّ أن تَتِمَّ أُمورُ

لَها منْ وَراءِ الغَيبِ أُذنٌ سَميعَة ٌ … وعَينٌ تَرى ما لا يراهُ بَصيرُ

وَفيتُ بِما ظَنَّ الكِرامُ فِراسة ً … بِأَمْرِي، وَمِثْلِي بِالْوَفَاءِ جَدِيرُ

وَأَصْبَحْتُ مَحْسُودَ الْجَلالِ، كَأَنَّنِي … عَلى كُلِّ نَفسٍ فى الزَمانِ أَميرُ

إذا صُلتُ كَفَّ الدَهرُ مِن غُلَوَائهِ … وإِن قُلتُ غَصَّت بِالقلوبِ صُدورُ

مَلَكْتُ مَقَالِيدَ الْكَلاَمِ، وَحِكْمَة ً … لَهَا كَوْكَبٌ فَخْمُ الضِّيَاءِ مُنِيرُ

فَلَوْ كُنْتُ فِي عَصْرِ الْكَلامِ الَّذِي انْقَضَى … لَبَاءَ بِفَضْلِي «جَرْوَلٌ» و«جَرِيرُ»

وَلَو كُنتُ أَدرَكتُ ” النُواسِى َّ ” لم يَقُل … أَجَارَة َ بَيْتَيْنَا أَبُوكِ غَيُورُ

وَمَا ضَرَّنِي أَنِّي تَأَخَّرْتُ عَنْهُمُ … وفَضلِى َ بينَ العالمينَ شَهيرُ

فَيَا رُبَّما أَخْلَى مِنَ السَّبقِ أَوَّلٌ … وبَذ الجيادَ السَابِقاتِ أَخيرُ