بقوة ِ العلمِ تقوى شوكة ُ الأممِ – محمود سامي البارودي
بقوة ِ العلمِ تقوى شوكة ُ الأممِ … فَالْحُكْمُ في الدَّهْرِ مَنْسُوبٌ إِلَى الْقَلَمِ
كمْ بينَ ما تلفظُ الأسيافُ منْ علقٍ … وَبَيْنَ مَا تَنْفُثُ الأَقْلامُ مِنْ حِكَمِ
لَوْ أَنْصَفَ النَّاسُ كَانَ الْفَضْلُ بَيْنَهُمُ … بِقَطْرَة ٍ مِنْ مِدَادٍ، لاَ بِسَفْكِ دَمِ
فاعكفْ على َ العلمِ ، تبلغْ شأوَ منزلة ٍ … في الفضلِ محفوفة ٍ بالعزَّ وَ الكرمِ
فليسَ يجنى ثمارَ الفوزِ يانعة ً … منْ جنة ِ العلمِ إلاَّ صادقُ الهممِ
لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسَاعِي مَا يَبِينُ بِهِ … سَبْقُ الرِّجَالِ، تَسَاوَى النَّاسُ في الْقِيَمِ
وَلِلْفَتَى مُهْلَة ٌ فِي الدَّهْرِ، إِنْ ذَهَبَتْ … أَوْقَاتُهَا عَبَثاً، لَمْ يَخْلُ مِنْ نَدَمِ
لَوْلاَ مُدَاوَلَة ُ الأَفْكَارِ مَا ظَهَرَتْ … خَزَائِنُ الأَرْضِ بَيْنَ السَّهْلِ وَالْعَلَمِ
كمْ أمة ٍ درستْ أشباحها ، وَ سرتْ … أرواحها بيننا في عالمِ الكلمِ
فَانْظُرْ إِلَى الْهَرَمَيْنِ الْمَاثِلَيْنِ تَجِدْ … غَرَائِباً لاَ تَرَاهَا النَّفْسُ فِي الْحُلُمِ
صرحانِ ، ما دارتِ الأفلاكُ منذُ جرتْ … على نظيرهما في الشكلِ والعظمِ
تَضَمَّنَا حِكَماً بَادَتْ مَصَادِرُهَا … لَكِنَّهَا بَقِيَتْ نَقْشاً عَلَى رَضَمِ
قومٌ طوتهمْ يدُ الأيامِ ؛ فاتقرضوا … وَ ذكرهمُ لمْ يزلْ حياً على القدمِ
فكمْ بها صور كادتْ تخاطبنا … جهراً بغيرِ لسانٍ ناطقٍ وَ فمِ
تَتْلُو لِـ«هِرْمِسَ» آيَاتٍ تَدُلُّ عَلَى … فَضْلٍ عَمِيمٍ، وَمَجْدٍ بَاذِخِ الْقَدَمِ
آياتُ فخرٍ ، تجلى نورها ؛ فغدتْ … مَذْكُورَة ً بِلِسَانِ الْعُرْبِ وَالْعَجَمِ
وَ لاحَ بينهما ” بلهيبُ ” متجهاً … للشرقِ ، يلحظ مجرى النيلِ من أممِ
كَأَنَّهُ رَابِضٌ لِلْوَثْبِ، مُنْتَظِرٌ … فريسة ً ؛ فهوَ يرعاها ، وَ لمْ ينمِ
رمزٌ يدلُّ على أنَّ العلومَ إذا … عَمَّتْ بِمِصْرَ نَزَتْ مِنْ وَهْدَة ِ الْعَدَمِ
فَاسْتَيْقِظُوا يَا بَني الأَوْطَانِ، وانْتَصِبُوا … للعلمِ ؛ فهوَ مدارُ العدلِ في الأممِ
وَلاَ تَظُنُّوا نَمَاءَ الْمَالِ، وَانْتَسِبُوا … فَالْعِلْمُ أَفْضَلُ مَا يَحْوِيهِ ذُو نَسَمِ
فَرُبَّ ذِي ثَرْوَة ٍ بِالْجَهْلِ مُحْتَقَرٍ … وَ ربَّ ذي خلة ٍ بالعلمِ محترمِ
شيدوا المدارسَ ؛ فهي الغرسُ إنْ بسقتْ … أَفْنَانُهُ أَثْمَرَتْ غَضّاً مِنَ النِّعَمِ
مَغْنَى عُلُومٍ، تَرَى الأَبْنَاءَ عَاكِفَة ً … عَلَى الدُّرُوسِ بِهِ، كَالطَّيْرِ في الْحَرَمِ
مِنْ كُلِّ كَهْلِ الْحِجَا في سِنِّ عَاشِرَة ٍ … يَكَادُ مَنْطِقُهُ يَنْهَلُّ بِالْحِكَمِ
كأنها فلكٌ لاحتْ بهِ شهبٌ … تُغْنِي بِرَوْنَقِهَا عَنْ أَنَجُمِ الظُّلَمِ
يَجْنُونَ مِنْ كُلِّ عِلْمٍ زَهْرَة ً عَبِقَتْ … بنفحة ٍ تبعثُ الأرواحَ في الرممِ
فَكَمْ تَرَى بَيْنَهُمْ مِنْ شَاعِرٍ لَسِنٍ … أَوْ كَاتِبٍ فَطِنٍ، أَوْ حَاسِبٍ فَهِمِ
وَ نابغٍ نالَ منْ علمِ الحقوقِ بها … مَزِيَّة ً أَلْبَسَتْهُ خِلْعَة َ الْحَكَمِ
وَلُجِّ هَنْدَسَة ٍ تَجْرِي بِحِكْمَتِهِ … جَدَاوِلُ الْمَاءِ في هَالٍ مِنَ الأَكُمِ
بَلْ، كَمْ خَطِيبٍ شَفَى نَفْساً بِمَوْعِظَة ٍ … وَ كمْ طبيبٍ شفى جسماً منَ السقمِ
مُؤَدَّبُونَ بآدَابِ الْمُلُوكِ، فَلاَ … تَلْقَى بِهِمْ غَيْرَ عَالِي الْقَدْرِ مُحْتَشِمِ
قَوْمٌ بِهِمْ تَصْلُحُ الدُّنْيَا إِذَا فَسَدَتْ … وَيَفْرُقُ الْعَدْلُ بَيْنَ الذِّئْبِ وَالْغَنَمِ
وَ كيفَ يثبتُ ركنُ العدلِ في بلدٍ … لَمْ يَنْتَصِبْ بَيْنَهَا لِلْعِلْمِ مِنْ عَلَمِ؟
ما صورَ اللهُ للأبدانِ أفئدة ً … إِلاَّ لِيَرْفَعَ أَهْلَ الْجِدِّ وَالْفَهَمِ
وَأَسْعَدُ النَّاسِ مَنْ أَفْضَى إِلَى أَمَدٍ … في الفضلِ ، وَ امتازَ بالعالي منَ الشيمِ
لَوْلاَ الْفَضِيلَة ُ لَمْ يَخْلُدْ لِذِي أَدَبٍ … ذِكْرٌ عَلَى الدَّهْرِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْعَدَمِ
فلينظرِ المرءُ فيما قدمتْ يده … قَبْلَ الْمَعَادِ، فَإِنَّ الْعُمْرَ لَمْ يَدُمِ