أُنْظُرْ إلى ذَاكَ الْجِدَارِ الحَاجِبِ – خليل مطران

أُنْظُرْ إلى ذَاكَ الْجِدَارِ الحَاجِبِ … مَا السَّدُّ فِيمَا حَدَّثُوا عَنْ مَأْرِبِ

هُوَ فِي الْحَدِثِ مِنَ الْبِنَاءِ غَرِيبُةٌ … زَانَ الْقَدِيمُ جِوَارَهَا بِغَرَائِبِ

إِحْدَى الْعَجَائِبِ فِي بِلاَدٍ لَمْ تَزَلْ … مِنْ مَبْدَإِ الدُّنْيَا بِلاَدَ عَجَائِبِ

حُسْنُ الطَّبِيَعَةِ أَكْمَلَتْهُ صِنَاعَةٌ … لِلنَّفْعِ فِيهَا بَيِّنَاتُ مَآرِبِ

شُطِرَ الْعَقِيقُ فَفَائِضٌ فِي جَانِبٍ … مَجْرَى الْحَيَاةِ وَغَائِضٌ فِي جَانِبِ

أَلنِّيلُ خَلْفَ السَّدِّ بَحْرٌ غامِرٌ … لاَ تُسْتَقَلُّ بِهِ صِغَارُ مَرَاكِبِ

بَلَغَ السَّوَامِقَ فِي النَّخِيلِ فَزَيَّنَتْ … تِيجَانُهَا صَفَحَاتِهِ بِرَوَاكِبِ

وَالْغَوْرُ بَيْنَ يَدِيْهِ مَرْمىً شَاسِعٌ … لِلْمَاءِ فِي قَاعٍ كَثِيرِ جَنَادِبِ

لاَ تَنْتَهِي صَفْوَاؤُهُ إِلاَّ … نِيلٍ تَجَدَّدَ مِنْ شَتِيتِ مَسَارِبِ

لَمْ يَحْتَبَسْ نَهْرٌ بِسَدٍّ قَبْلَهُ … ضَخْمٍ ضَخَامَتَهُ عَرِيض الْغَارِبِ

يَجْتَازُ مَنْ يَعْلُوهُ نَهْجاً نَائِياً … طَرَفَاهُ تَحْمِلُهُ ضِخَامُ مَنَاكِبِ

أَتَرَى هُنَالِكَ فِي ثِيَابٍ رَثَّةٍ … أَشْتَاتَ حُسْنٍ جُمِّعَتْ فِي قَالَبِ

فَلاَّحَةً جَثَمَتْ بِأَدْنَى مَوْقِعٍ … لِلظِّلِّ مِنْ الطَّرِيقِ اللاَّحِبِ

لاَنَتْ مَعَاطِفُهُا وَصَالَتْ عِزَّةٌ … قَعْسَاءُ مِنْ أَجْفَانِهَا بِقَوَاضِبِ

أَدْمَاءُ إِلاَّ أَنَّ كُدْرَةَ عَيْشِهَا … شَابَتْ وَضَاءَةُ لَوْنِهَا بِشَوَائِبِ

هِيَ أُمُّ طِفْلٍ شُقَّ عَنْهُ طَوْقُهُ … وَتَرَى نَضَارَتَهَا نَضَارَةَ كَاعِبِ

طَالَ المَسِيرُ بِهَا فَأَعْيَتْ فَاسْتَوَتْ … تَبْغِي الْجَمَامَ مِنَ المَسِيرِ النَّاصِبِ

أَلْوَتْ كَمَا يُلْقِي الضَّعِيفُ بِحِمْلِهِ … وَسْنَى وَقَدْ يَغْفُو ضَمِيرُ اللاَّغِبِ

وَثَوَى ابْنُهَا ويَدَاهُ مِلْؤُهُمَا حصىً … مَلْسَاءُ يَلْعَبُ فِي مَكَانٍ صَاقِبٍ

أَمِنَتْ عَلَيْهِ وَالحَدِيدُ حِيَالَهُ … كَأَضَالِعٍ مَشْبُوكَةٍ وَرَوَاجِبِ

وَالجِسْرُ مَمْتَدٍّ قَوِيمٌ لاَ تَرَى … فِيهِ مَظِنَّةَ خَاطِفٍ أَوْ سَالِبِ

لَكِنَّ أَبْنَاءَ الجَمَاهِيرِ ابْتُلُوا … فِي الشَّرْقِ مِنْ قِدَم بِخَطْبٍ حَازِبٍ

لِلْجَهْلِ فِيهِمْ سُلْطَةٌ أَمَّارَةٌ … بِالسُّوءِ غَيْرُ بَصِيرَةٍ بَعَوَاقِبِ

أَوْدَتْ بِجِيلٍ بَعْدَ جِيلٍ مِنْهُمُ … لاَ بِدْعَ إِنْ أَوْدَتْ بِطِفْلٍ لاَعِبِ

خَدَعَتْهُ أَصْوَاتُ الهَدِير وَشَاقَهُ … قَرْعُ الطُّبُولِ بِهَا وَنَفْخُ القَاصِبِ

فَاسْتَدْرَجَتْهُ وَحَرَّكَتْ أَقْدَامَهُ … نَحْوَ الفَرَاغِ ويَا لَهُ مِنْ جَاذِبِ

فَأَطَلَّ والمَهْوَى سَحِيقٌ دُونَهُ … وَالعُمْقُ لِلأَبْصَارِ أَقْوَى جَالِبِ

حَتَّى إِذَا فَعَلَ الدُّوَارُ بِرَأْسِهِ … فِعْلَ الطِّلاَ دَارَتْ بِرَأْسِ الشَّارِب

زَلَّتْ بِهِ قَدَمٌ إلى مُتَحَدَّرٍ … لِلْمَاءِ مُبْيَضِّ الجَوَانِبِ صَاخِبِ

فَدَعَا بِيَا أُمَّاهُ حِينَ سُقُوطِهِ … وَطَوَاهُ دُرْدُورُ الأَتِيِّ السَّارِبِ

هَبَّتْ لِتَلْبِيَةِ ابْنِهَا وَتَرَاكَضتْ … مِنْ كلِّ نَاحِيَةٍ بِقَلْبٍ وَاجِبِ

مَرَّتْ وَكَرَّتْ لاَ تَعِي وَتَعَثَّرَتْ … يُمْنَى وَيُسْرَى بِالرَّجَاءِ الخَائِبِ

فَتَدَافَعَتْ نَحْوَ الشَّفِيرِ وَمَا لَهَا … لَوْنٌ سِوَى لَوْنِ القُنُوطِ الشَّاحِبِ

تَرْنُو بِعَيْنٍ أُفْرِغَتْ مِنْ نُورِهَا … وَتَمَدَّدَتْ أَرَأَيْتَ عَينَ الهَائِبِ

فَإِذَا شِعَابُ النّهْرِ تَذْهَبُ بِابْنِهَا … فِي فَجْوَةِ الَوادِي ضُرُوبَ مَذَاهِبِ

فَاظْنُنْ بِرَوْعَتِهَا وَسُرْعَةِ عَدْوِهَا … نحْوَ العَقِيقِ وَدَمْعِهَا المُتَسَاكِبِ

فِي ذلِكَ المِيقَاتِ أَقْبَلَ يَافِعٌ … بِوِسَامِ كَشَّافٍ وَبِزَّةِ طَالبِ

قَبَلٌ لِلِينِ الأَسْمَرِ الخَطِّيِّ فِي … لَوْنٍ إلى صَدَإِ المُهَنَدِ ضَارِبِ

مِنْ فِتْيَةِ الزَّمَنِ الَّذِينَ سَمَا بِهِمْ … مَوْفُورُ آدَابٍ وَيُمْنُ نَقَائِبِ

وَتَنَزَّهَتْ أَخْلاَقُهُمْ عَنْ وَصْمَةٍ … بِتَرَدُّدٍ مُزْرٍ وَجُبْنٍ عَائِبِ

قَدْ رَاضَ مِنْهُمْ كُلُّ شِبْلٍ بَأْسَهُ … فَغَدَا كَلَيْثٍ فِي الكَرِيهَةِ دَارِبِ

صَدَقَتْ مَوَاقِفُهُ لَدَى الجُلَّى فَمَا … دَعْوَى الشَّجَاعَةِ مِنْهُ دَعْوَى كَاذِبِ

ذَاكَ الفَتَى وَافَى لِيَروِي غُلَّةً … بِالنَّفْسِ مِنْ عَجَبٍ هُنَالِكَ عَاجِبِ

مِنْ رَوْعَة النَّهْرِ الحَبِيسِ جَرَتْ بِهِ … مِنْ مَهْبطٍ عَالٍ عِرَاضُ مَذَانِبِ

وَجَمَالِ مَا يَبْدُو لَهُ مِنْ جَنَّةٍ … غَنَّاءَ فِي ذَاكَ المَكَانِ العَاشِبِ

فَرَأَى ولِيداً دَامِياً مُتَخَبِّطَاً … بَيْنَ المَسِيلِ وَصَخْرِهِ المُتَكَالِبِ

وَشَجَاهُ مِنْ أُمِّ الغَرِيقِ تَفَجُّعٌ … مُتَدَارِكٌ مِنْ مَوْضِعٍ مُتَقَارِبِ

نَاهِيكَ بِالْيَأْسِ الشَّدِيد وَقَدْ غَدَا … كَالنَّبْحِ مِنْ جَرَّاهُ نَحْبُ النَّاحِبِ

أَوْحَى إِلَيهِ قَلْبُهُ مِنْ فَوْرِهِ … أَنَّ انْتِقَاذَ الطِّفْلِ ضَرْبَةُ لاَزِبِ

سُرْعَانَ مَا أَلْقَى بِوِقْرِ ثِيَابِهِ … عَنْهُ وَخَفَّ بِعَزْمِ فَهْدٍ وَاثِبِ

مُتَوَغَّلاً في الْغَمْرِ غَيْرَ مُحَاذِرٍ … يَحِدُ الرَّدَى أَمَماً وَلَيْسَ بِنَاكِبِ

مَا زَالَ حَتَّى اسْتُنْفِدَتْ مِنْهُ الْقُوَى … هَلْ مِنْ مَرَدٍّ لِلْقَضَاءِ الْغَالِبِ

أَبْلَى بَلاَءَ الأَبْسَلِينَ فَلَمْ يَقَعْ … إِلاَّ عَلَى شَجَبٍ هُنَالِكَ شَاجِبِ

ذَهَبَتْ مُرُوءَتُهُ بِهِ غَضَّ الصِّبَا … للهِ دَرُّكَ فِي الْعُلَى مِنْ ذَاهِبْ

إِنِّي أَسِيتُ عَلَى الغُلاَمِ وَأُمِّهِ … لَكِنْ أَسَى مُتَبَرِّمٍ أَوْ غَاضِبِ

جَزِعٍ عَلَى الأَوْطَانِ مِنْ عِلَلٍ بِهَا … وَعَلَى وَلاَةِ الأَمْرِ فِيهَا عَاتِبِ

لَوْ عُدَّ مَا فَعَلَتْ جَهَالَتُنَا بِنَا … لَمْ يُحْصِ أَكْثَرَهُ حِسَابُ الْحَاسِبِ

أَمَّا الَّذِي أَبْكِي رَدَاهُ بِحُرْقَةٍ … وَبِمَدْمَعٍ مَا عِشْتُ لَيْسَ بِنَاضِبِ

فَهْوَ الَّذِي دَعَتِ الْحِمِيَّةُ فَانْبَرَى … مُتَطَوِّعاً لِفِدَى غَريبٍ شَاذِبِ

وَشَرَى الْحَيَاةَ لِغَيْرِهِ بِحَيَاتِهِ … وَالْعَصْرُ عَصْرُ المُسْتَفِيدِ الْكَاسِبِ

هَذَا هُوَ الْكَشَّافُ أَبْدَعَ مَا يُرَى … فِي صُورَةٍ مِنْ شَاعِرٍ أَوْ كَاتِبِ

وَهَلِ الْفَتَى الْكَشَّافُ إِلاَّ مَنْ رَمَى … مَرْمَىً وَلَمْ يَخْشَ اعْتَرِاضَ مَصَاعِب

وَمَضَى لَطِيفاً فِي ابْتِغَاءٍ مَرَامِهِ … أَوْ غَيْرَ مُلْوٍ دُونَهُ بِمَعَاطِبِ

لا يَسْتَهِينُ بِعِرْضِ غَانِيَةٍ وَلاَ … يَنْسَى أَوَانَ الضَّيْمِ حَقَّ الشَّائِبِ

وَيَكَونُ يَوْمَ السِّلْمِ خَيْرَ مَسَالِمٍ … ويَكُونُ يَوْمَ الْحَرْبِ خَيْرَ مُحَارِبِ

فإِذَا دَعَا دَاعِي الْفِدَاءِ فَإِنَّهُ … يَقْضِيهِ أَوْ يَقْضِي شَهِيدَ الْوَاجِبِ

فِي ذِمَّةِ المَوْلَى شِهَابٌ عَاثِرٌ … تَبْكِيهِ أُمَّتُهُ بِقَلْبٍ ذَائِبِ

بَاقٍ وإِنْ هُوَ غَابَ سَاطِعُ نُورِهِ … حَتَّى يُكَادَ يَخَالُ لَيْسَ بِغَائِبِ

مِصْرٌ تُتَوِّجُهُ بِتَاجِ خَالِدٍ … يَزْهُو سَنَاهُ عَلَى المَدَى المُتَعَاقِبِ

وَتَقُولُ قَدْ ثَكِلَتْ سَمَائِي كَوْكَباً … لَكِنَّ قُدْوَتَهُ وَلُودُ كَوَاكِبِ