أَشِيرِي إِلَى عَاصِي الهَوَى يَتَطَوَّعِ – خليل مطران

أَشِيرِي إِلَى عَاصِي الهَوَى يَتَطَوَّعِ … وَنادِي المُنَى تُقْبِلْ عَلَيْكِ وَتَسْرِعِ

أَفَقْراً فَتاةَ الرُّومِ وَالحُسْنُ مَغْنَمٌ … وَطُهْراً وَهَذَا العصْرُ عَصْرُ تَمَتُّعِ

إِلَى كَمْ تَطُوِفينَ الرُّبُوعَ تسَوُّلاً … تبِيعِينَ صَوْتَ الْعَودِ لِلْمُتسَمِّعِ

لَقَدْ كانَ عَهْدٌ لِلْفَضِيلَة وَانْقَضَى … وَأَبْدَعَ هَذَا العَهْدُ أَمْراً فَأَبْدعِي

وَلوْ شِئْتِ قَالَ الْحُبُّ إِمْرَةَ قَادِرٍ … لِمُجْدبِ هَذَا العَيْشِ أَزْهِرْ وَأَمْرِعِ

وَلِلقَفْرِ كُنْ صرْحاً مَشِيداً لأُنْسِهَا … وَلِلصَّخْرِ كُنْ رَوْضاً وَأَوْرِقْ وَأَفْرِعِ

وَلِلْظُّلْمَةِ الْخَابِي بِهَا النَّجْمُ أَطْلِعِي … لَهَا أَنْجُماً إِنْ تَغْرُبِ الزُّهْرُ تَسْطَعِ

فَتَاةٌ كمَا تَهْوَى النُّفُوسُ جَمِيلَةٌ … مُنَزَّهَةٌ عَنْ رِيبَةٍ وَتَصَنُّعِ

تُخَالُ مُحَلاَّةً وَمَا ثَمَّ مِنْ حِلىً … سِوَى أَدَبٍ وَفْرٍ وَحُسْنٍ مُمَنَّعِ

هَضِيمةُ كَشْحٍ مَا بِهَا مِنْ خَلاَعَةٍ … وَيَكْذِبُ مَا فِي مَشْيِهَا مِنْ تخَلُّعِ

بَيَاضٌ يَغارُ الْعَاجُ مِنْهُ نقَاوَةً … وَيَحْجُبُهُ لَوْنُ الْحيَاءِ كَبُرْقُعِ

وَعَيْنَانِ سَوْدَاوَانِ يَنْهَلُّ مِنْهُمَا … ضِيَاءٌ كَمَسْكُوبِ الرَّحِيقِ المُشَعْشَعِ

تَمُدُّ يَدَيْهَا لِلسُّؤَالِ ذَلِيلَةً … فَإِنْ سُئِلَتْ مَا يُنْكِرُ النُّبْلُ تَمْنَعِ

فِللَّه تِلْكَ الْكَفُّ تُبْسَطُ لِلنَّدَى … وَلَوْ طَلَبَتْ مُلْكاً لَفَازَتْ بِأَرفَعِ

تَوَدُّ قُلُوبُ النَّاسِ لوْ بُذِلتْ لَهَا … كَبَعْضِ عَطَاءِ المُحْسِنِ المُتَبَرِّعِ

رَآهَا فتى خَالٍ فَمَلَّكَ حُسْنَها … قِيَادَ الْهَوَى فِي قَلْبِهِ المُتَوَزِّعِ

وَكانَ ضَعِيفَ الرَّأْيِ فِي أَمْرِ نَفْسهِ … رَقِيقَ حَوَاشِي الطَّبْعِ سَهْلَ التَّطَبُّعِ

أَدِيباً صَبِيحَ الوَجْه بَيْنَ ضُلُوعهِ … فُؤَادُ جَوَادٍ بِالمَحَامدِ مُوزَعِ

غَنِيّاً عَلَى البَذْلِ الْكَثِيرِ مُوَطَّأً … لَهُ كَنَفُ العَلْيَاءِ فِي كٌلِّ مَفْرَعِ

فَغَازَلَهَا يَوْماً فعَفَّتْ فَظَنَّهَا … تُشَوِّقُهُ بِالصَّدِّ عَنْهُ لِمَطْمَعِ

وَأَنَّى عَلَى فَقْرٍ تَعِفُّ طَهَارةً … ولاَ عِفَّةٌ إِلاَّ بِرِيٍّ وَمَشْبَعِ

فَسَامَ إِلَيْهَا عِرْضَهَا سَوْمَ مُشْتَرٍ … وأَغْلَى لَهَا مَهْرَ الشَّبَابِ المُضَيَّعِ

عَلَى زَعْمِ أَنَّ المَال وَهْوَ شَفِيعُهُ … يَكُونُ لَدَى الحَسْنَاءِ خَيْرَ مُشَفَّعِ

وَلكِنْ تَعَالَتْ عَنْ إِجَابَةِ سُؤلِهِ … وَرَدَّتْ عَلَيْهِ المَالَ رَدَّ تَرَفُّعِ

فَمَا زَادَهَا إِلاَّ جَمَالاً إِبَاؤُها … وَمَا زَادَهُ إِلاَّ صبابَةَ مُولَعِ

وأَدْرَكَهَا فِي رَوْضَةٍ فَخَلاَ بِهَا … بِمَرْأَى رَقِيبٍ لِلْعَفَافِ وَمَسْمَعِ

فلَمَا اسْتَبَانَتْ فِي هَوَاهُ نَزَاهْةً … أَجَابَتْ إِلى النَّجْوَى وَلَمْ تَتَوَرَّعِ

وَقالَتْ لَهُ إِني فتَاةٌ عَلِيلَةٌ … عَلَى مَوْعِدٍ مِنْ طَارِئٍ مُتَوَقَّعِ

تنَاوَبَنِي جُوعٌ وَبَرْدٌ فَأَقْلَقَا … دَعَائِمَ صَدْرِي الْخَائِرِ المُتَصدِّعِ

وَبِي ضَعَةٌ فِي الْحَالٍ حَاذرْ قِصَاصَهَا … وَمِثْلُكَ إِنْ يُقْرَنْ بِمِثْلِي يُوضَعِ

وَإيَّاكَ حُبّاً دُونَهُ كُلُّ شِقْوَةٍ … تُعَانِي بِهِ دَائِي وَتُفْجَعُ مَفْجَعِي

لَكَ الْجَاهُ فَاخْتَرْ كُلُّ نَاضِرَةِ الصِّبَا … رَبِيبَةِ مَجْدٍ ذَاتِ قَدْرٍ مُرَفَّعِ

وَكِلْنِي إِلى هَمِّي فَإِنِّي غَرِيقَةٌ … بِبَحْرٍ مِنَ الآلامِ وَالذُّلِّ مُتْرَعِ

إِذَا لَحَظَتْ عَيْنِي النَّعِيمَ فَإِنَّه … ليَنْفِرُ مِنِّي نِفْرَهُ المُتَفَزِّعِ

سُقِيتُ الرَّزَايَا طِفْلَةً ثُمَّ هَذِهِ … ثُمالةُ تِلْكَ الْكَأْسِ فَلأَتَجَرَّعِ

فَقَالَ لَهَا بَلْ يَشْهَدُ اللّهُ بَيَنَا … وَأَسْقَامُ قَلْبِي الْوَالِهِ المُتَوَجِّعِ

وتَشْهَدُ هَذِي الشَّمْسُ عِنْدَ غُرُوبِهَا … وَمَا حَوْلَنا مِنْ نُورِهَا المُتَفَرِّعِ

وَيَشْهَدُ ذَا الرَّوضِ الأَرِيضُ وَدوْحُهُ … وَمَا فِيهِ مِنْ زَهْرٍ وعِطْرٍ مُضَوَّعِ

وَهَذِي الظِّلاَلُ الْبَاسِطَاتُ أَكُفَّهَا … وَهَذِي الشِّعَاعُ المُؤمِئَاتُ بِأَذْرُعِ

وَهَذِي المِيَاهُ النَّاظِرَاتُ بِأَعْيُنٍ … وَهَذِي الْغُصُونُ المُصْغِيَاتُ بِمَسْمَعِ

بِأَنِّيَ لاَ أَبْغِي سِواكَ حَلِيلَةً … وَمَهْمَا تَسُمْنِي صَبْوَنِي فِيكِ أَخْضَعِ

وَأَنِّيَ أَقْلِي صِحَّتِي وَشبِيبَتِي … إِذَا لَمْ تكُونِي فِيهِمَا مُتَمَتَّعِي

لِعَيْنَيْكِ أَرْضى بِالْحَيَاةِ بَغِيضَةً … عَلَيَّ فَإِنْ عُوجِلْتِ بِالْبَيْنِ أَتْبَعِ

فَقَالَتْ لَهُ مَسْرُورَةً وَهْيَ قَدْ جَئَتْ … لَدَيْهِ بِذُلِّ الْعَابِدِ المُتَخَشِّعِ

أَفِي حُلُمٍ أَمْ يَقْظَةٍ مَا سَمِعْتُهُ … فَإِنَّ سُرُورِي فرْط مَا زَادَ مُفْزِعِي

لَعَمْرُكَ مَا قَرَّتْ عُيُونٌ بِمَنْظَرٍ … وَلاَ طَرِبَتْ نَفْسٌ بِلَحْنٍ مُوَقَّعِ

وَلاَ رَوِيَتْ ظَمْأَى الرَّيَاحِينِ بِالنَّدَى … فَعَادَتْ كَأَزْهَى مَا تَكُونُ وَأَبْدَعِ

وَلاَ آنسَ المَلاَّحُ بُشْرَى مَنَارَةٍ … لَهُ بِلِقَا أَهْلٍ وَصَحْبٍ وَمَرْبَعِ

كَمَا طِبْتُ نَفْساً بِالَّذِي أَنْتَ قَائِلٌ … وفارَقَنِي الْيَأْسُ الَّذِي كانَ مُوجِعِي

ومَا أَنَا إِلاَّ حُرَّةٌ مُسْتَرَقَّةٌ … لِفَضْلِكَ مَهْمَا تأْمُرِ القَلْبَ يَصْنَعِ

وَأَجْزِيكَ عَنْ عُمْرٍ إِليَّ أَعَدْتَهُ … بِحُبِّي وَإِخْلاَصِي عَلَى العُمْرِ أَجْمَعِ

وَقَدْ خَتمَا هَذِي الْعُهُودَ بِقُبْلَة … وأَكَّدَهَا صِدْقُ الْغَرَامِ بِمَدْمَعِ

حَيَاتُكَ مَا سَاءَتْ وَسَرَّتْ كَمَرْكَبٍ … عَلَى سفَرٍ راسٍ قَلِيلاً فَمُقْلِعِ

فَإِمَّا انْقَضَتْ فَالْحَادِثَاتُ جَمِيعُهَا … تزُولُ زَوَالَ الْعَارِضِ المُتَقَشِّعِ

أَتَنْظُرُهَا حَسْنَاءَ جَمَّلَهَا الرَّدَى … لِيَسْطُو عَلَيْهَا سِطْوَةَ المُتَشَفِّعِ

عَلَى وَجْهِهَا مِنْ مَغْرِبِ الشَّمْسِ مَسْحَةٌ … تُذِيبُ فُؤَادَ الْعَاشِقِ المُتَطَلِّعِ

يَقُولُ وَقَدْ أَلْقَى عَيَاءً بِنَفْسِهِ … عَلَى الأَرْضِ كالنِّضْوِ الطَّلِيحِ الْمضَلَّعِ

فَجَعْتَ فُؤَادِي يَا زَمَانَ بِخَطْبِهَا … فَلَيْتَكَ مَرْزُوءُ الْفُؤادِ بِأَفُجَعِ

عَرُوسٌ لِعَامٍ لمْ يَتِمَّ صَرَعْتَهَا … وَلوْ شِئْتَ لمْ تَضْرِبْ بِأَمْضى وَأَقْطعِ

فَبَاتَتْ عَلَى مَهْدِ الضَّنى مَا لِجَفْنِهَا … هُجُوعٌ وَلاَ جَفْنِي يَقَرُّ بِمَهْجَعِ

وَكانَتْ رَبِيعاً لِي فَأَقْوَتْ مَرَابِعِي … مِنَ الزَّهْرِ وَالشَّدْوِ الرَّخِيمِ المُرجَّعِ

أَقُولُ لَهَا وَالدَّاءُ يُنْحِلُ جِسْمَهَا … عزَاءَكِ لاَ بَأْسٌ عَلَيْكِ فَتَجْزَعِي

كَذبْتُ عَلَى أَنَّ الأَكَاذِيبَ رُبَّمَا … أَطَالتْ حَيَاةً لِلْحبِيبِ المودِّعِ

وَلَكِنْ أَرَاهَا يَنْفُثُ الدَّمَ صَدْرُهَا … فَأَشْعُرُ فِي صَدْرِي بِمِثْلِ التَّقَطُّعِ

وَأَحْنو عَلْيهَا حِنْيَةَ الأُمِّ مُشْفِقاً … وهَيْهَاتَ تَحْمِيهَا مِنَ البَيْنِ أَضْلُعِي

وَأَرْنُو إِليْهَا بَاسِماً مُتَكَلَّفاً … فَتَفْشِي مِرَاراً سِرَّ خوْفِي أَدْمُعِي

وَما غَرَّهَا مِنِّي افْتِرَارٌ وَإِنَّمَا … يَدُلُّ عَلَى اليَأْسِ انْكِشَافُ التَّصَنُّعِ

إِذَا افْتَرَّ ثَغْرِي مِنْ خِلاَلِ كَآبَتِي … عَلَى مَا بِقَلْبِي مِنْ أَسى وَتَفَجُّعِ

فقَدْ يَبْسِمُ الْبَرْقُ البَعِيدُ وَإِنَّهُ … لذُو ضَرَمٍ مُفْنٍ وَرَعْد مُرَوِّعِ

فَبَيْنَا يُنَاجِي نفْسَهُ وَفُؤَادُهُ … كَشِلْوٍ بِأَنْيَابِ الْغُمُومِ مُبَضَّعِ

دَعَتْهُ وَقَالَتْ يَا حَبِيبِيَ إِنَّهُ … دَنَا أَجَلِي فالزَمْ عَلَى الْقُرْبِ مَضْجَعِي

مَتَى تَبْتَعدْ أُوجِسْ حِذَاراً مِنَ الرَّدَى … وَلَكنَّنِي أَسْلُو الرَّدَى إِنْ تَكنْ مَعِي

أَيُذْكِرُكَ التَّوْدِيعُ أَوَّلَ مُلْتَقىً … كَشَفْنَا بِهِ سِتْرَ الغَرَامِ المقَنَّعِ

وَحِلْفَتَنَا أَنْ لاَ يُصَدِّعَ شَمْلَنَا … فِرَاقٌ عَلَى رَغْمِ الزَّمَانِ المصَدِّعِ

فَعِشْ سَالِماً وَاغْنَمْ شَبَابَكَ مُطْلَقاً … مِنَ العَهْدِ وَلأُجْعَلْ فِدَاكَ بِمَصْرَعِي

وَمَا كَانَ ذَاكَ العَهْدُ إِلاَّ وَدِيعَةً … تَلقَّيُتَها مِنْ ذِي وَفَاءٍ سَمَيْذَعِ

وَعِنْدَ النَّوَى تُوفَى الأَمَانَاتُ أَهْلَهَا … وَيُنْهَى إِلى أَرْبَابِهِ كُلُّ مُوَدعِ

وَلَكِنْ إِذَا مَلَّكْتَ قَلْبكَ فَاحْتَفِظْ … بِرَسْمِي وَحَسْبِي فِيهِ أَصْغَرُ مَوْضِعِ

فَأَصْغَى إِلَيْهَا وَهْوَ يَشْهَدُ نَزْعَهَا … وَيَنْزِعُ فِي آلاَمِهِ كُلَّ مَنْزِعِ

وَقَالَ أَبَى اللهُ الخِيَانَةَ فِي الْهَوى … فَإِنْ لَمْ أَمُتْ بِالْعَهْدِ فَلأَتَطَوَّعِ

فَيَا بَهْجَةَ البَيْتِ الَّذِي هُوَ بَعْدَهَا … كَدَارِسِ رَسْمٍ فَاقِدِ الأُنْسِ بَلْقَعِ

وَيَا زَهْرَةَ الْحُبِّ الَّتِي بِذُبُولِهَا … ذُبُولُ فُؤَادِي النَّاشِيءِ المُتَرَعْرِعِ

لَئِنْ تَنْزِلِي دَارَ الْفنَاءِ وَحِيدَةً … فَلاَ كَانَ قَلْبِي فِي الْهَوَى قَلْبَ أَرْوَعِ

وَإِنْ عُدْتُ فِيمَنْ شَيَّعُوكِ فَلاَ يَكُنْ … بِمَوْتِيَ لِي مِنْ صَاحِبٍ وَمُشَيِّعِ

وَلَمَا أَجَابَتْ دَاعِيَ البَيْنِ مَوْهِناً … أَجَابَ كَمَا شَاءَ الوَفَاءُ وَمَا دُعِي

أَصَابَتْ سِهَامُ اليَأْسِ مَقْتَلَ قَلْبِهِ … فَمَا نُعِيَتْ حَتَّى عَلَى إِثْرِهَا نُعِي

عَلَى أَنَّهَا الدُّنْيَا اجْتِمَاعٌ وَفُرْقةٌ … وَتَخْلُفُ دَارَ البَيْنِ دَارُ التَّجَمُّعِ