أَذكُره وَكَيفَ لا أَذكُرُ – الياس أبو شبكة

أَذكُره وَكَيفَ لا أَذكُرُ … لُبنانُ فيهِ المَسكُ وَالعَنبَرُ

هَواؤُهُ الطَيِّبُ روحُ الصِبا … وَماؤُهُ أَكدرهُ كَوثَرُ

أَشجارُهُ ذاهِبَةٌ في الفَضا … يَروعُ مِنها ذلِكَ المَنظَرُ

كَأَنَّها المَرّاد قامَت عَلى … آكامِهِ ساهِرَةً تَخفرُ

نَبعُ الصفا يقطُر مِن صَدرِهِ … وَالرَوضُ سَكرانُ فَلا يَشعُر

كَأَنَّما أَمواهُهُ خَمرَةٌ … مُذ يَستَقيها رَوضُهُ يسكُر

وَزُحلَةٌ شَوقي إِلى زحلَةٍ … كَأَنَّها في حُسنِها جُؤذَرُ

حَوراءُ وَالعشّاقُ ترتادُها … وَكُلُّ مَن يَعشَقها أَحوَرُ

كَم قَد تَبارى الشِعرُ في وَصفِها … وَكُلُّنا في وَصفِها قَصَّرُ

سَماؤُها وَحيٌ وَأَزهارُها … شعرٌ وَبردونيُّها أَسطُرُ

كَم أَنجَبتُ من شاعِرٍ نابِغٍ … إِذا اِنبَرى في مَوقِفٍ يسحرُ

كَأَنَّما هاروتُ في شِعرِهِ … بِالرُغمِ عَن إِخفائِهِ يَظهَرُ

وَالأَرزُ شَدَّ الخُلدُ أَعصابَهُ … فَكُلُّ طودٍ عِندَه يصغُر

جبابِرُ الأَيّامِ في مَجدِها … مَرهونَةٌ لِأَمرِها الأَعصُر

يا أَرزُ لا يُطوى الفُخارُ الَّذي … كانَ سليمانُ لهُ ينشُرُ

فَاِصبِر عَلى الدَهرِ فَما غايَةٌ … ضاعَت لمن كانَ لَها يَصبُر

هَويتُ لبنانَ وَلا أَنثَنى … عَن حُبِّ لبنانَ ولا أُدبُر

لي فيهِ شَطرٌ مِن حَياتي وَلي … مِن مُهجَتي في صَدرِه أَشطُر

لي فيهِ بَدرٌ مُشرِقٌ نَيِّرٌ … لهُ جَمالٌ مشرِقٌ نَيِّرُ

يَبذر نوراً في رِياضِ الهَوى … فَأَنثَني أَجمَعُ ما يبذُرُ

كَم لَيلَةٍ أَحيَيتُها قُربَه … وَالحُبُّ يُعطينا وَلا يخسَرُ

كَأَنَّهُ رتشيلد في عزِّه … كَأَنَّهُ روكفلر الموسرُ

وَاللَيلُ فيهِ قَمرٌ كامِلٌ … كَأَنَّهُ عبدٌ لَنا أَعوَرُ

يا أولِغا مَرَّ الصَفا عابِراً … كلَّ صفاءٍ في الوَرى يعبُرُ

وَفي فُؤادي أَدمُعٌ كُلَّما … فاضَت في آهاتِهِ تعثُرُ

يا جُؤذَراً ما ميّ في كلّ ما … أَنظِمُ إِلّا أَنتَ يا جُؤذُر

أَنتَ الَّذي أَوحَيتَ شِعري فَلا … أَجحدُ ما توحي وَلا أُنكرُ

في عَينِكِ النَجلاءِ سرُّ الهَوى … وَفي لِماكَ العَذبِ ما يُسكرُ

وَفي ثَناياكَ هَوىً طاهِرٌ … وَبَينَ جَنبَيكَ هَوىً أَطهَرُ

سَأَذكرُ المرجةَ في الفَجرِ إِذ … أَبكَرتَ كَالحَسّونِ إِذ يُبكِرُ

مُذ شَرَّفت رِجلاكَ أَعشابها … حَنى بِلُطفٍ ذلِكَ الأَخضَرُ

أَودَعتَ عِندي مُهجَةً لَم تخن … قَلبي عَلى إِكرامِها يَسهَرُ

قَطرتَ لي الودَّ فَهَل في السَما … صَفاوَةٌ مِثل الَّتي تقطُر

لي كلُّ هذا في بِلادي وَلي … في البَيتِ أُختٌ شعرُها أَشقُر

ضَحّاكةٌ كَالزَهرِ في رَوضِهِ … رَقّاصَةٌ غَنّاجَةٌ تَخطرُ

صَغيرَةُ السنّ لَها أَعيُنٌ … زرقٌ وَخدّ أَبيَضُ أَحمَرُ

وَحاجِبٌ كَالسَيفِ إِن حَدَّقت … عَن غَضبٍ يَخافُها عَنتُر

الأَسودُ الحالِكُ في لَونِهِ … إِذا مَشى أَمامَها يَفخَرُ

هرٌّ لَهُ في عَينِها جاذِب … وَفي حَشاها جاذِبٌ آخرُ

إِن وَفَّق الحَظُّ لهُ فارَةً … يُسرِعُ في ساعَتِهِ يخبرُ

كَأَنَّهُ وَهوَ عَلى كَتفِها … إِسكَندَرُ الأَكبَرُ أَو قَيصرُ

أَو غَليمُ الثاني عَلى عَرشِهِ … اللَهُ مِن سَطوَتِهِ أَكبَرُ

أخت وَيا لِلَّهِ مِن جورِها … يأتمرُ الكُلُّ إِذا تَأمرُ

فَرض عَلى البَيت وَما فيه أَن … يَبقى عى مرضاتِها يسهرُ

إِن طلبَت شَيئاً وَلم يُؤتِها … جَميع ما تصدفه يُكسَرُ

الوَيل لِلأَكؤُسِ من شَرِّها … وَيل الكراسيّ إِذا تنفُرُ

وَالبَيت يا لِلَّهِ من ذكره … يُحيطُه بُستانُه الأَخضَرُ

تنظُرُ لِلأَشجارِ فيهِ وَلا … يعجبها إِلا الَّتي تثمرُ

تحبُّني حُبّاً شَديداً بِلا … حصرٍ وحبّ الأُخت لا يُحصَرُ

حُبّاً يُضاهي الأَرضَ طرّاً وَما … قَد حَمَلَت في قعرِها الأَبحرُ

من سمكٍ يسبحُ في مائِها … وَمن شخاتيرٍ بِها تَمخرُ

وَمن رِمالٍ كثُرت حَولَها … فحبّ أختي هو لي أَكثَرُ

كَم مَرَّةٍ أَفرغَت وَقتي لِكَي … أَسمَعَها تَنشدُ ما تذكرُ

فَتسكرُ الآلامُ في مُهجَتي … وَصَوتُ أُختي خَمرَةٌ تُسكِرُ

تَنظُرُ في عَينيّ طوراً وَلا … أُحرِزُ ماذا الدُرُّ وَالجَوهَرُ

وَتارَةً تفرجُ عَن مَبسَمٍ … يَلمعُ فيهِ الدرُّ وَالجَوهَرُ

كَم مَرَّةٍ جاءَت إِلى مَكتَبي … بينا اَنا أَنظُمُ أَو أَنثُر

فَبَعثَرَت أَوراقَهُ وَالهَوى … في مُهجَتي كانَ لَها يشكرُ

سَأهجر الأَوطانَ لا كارِهاً … لكِن لِأَسبابٍ دَعَت أَهجُرُ

رِجالُها مَأجورَةٌ جلَّها … كَأَنَّها الآلَة تُستَأجرُ

في أَرض زَغلولٍ سَأُمسي غَداً … هَل يا تُرى يَصفو لي المعشَرُ

أَنا أَسيرٌ في بِلادي فَهل … في مِصر أَفكار الفَتى تُؤسَرُ

ما مصرُ إِلّا زَهرَةٌ في العُلى … وَالنَيلُ من برعمِها يقطُرُ

فَالحُرُّ فيها أَسدٌ رابِضٌ … إِذا دُعي لِلوَثبِ لا يَغدرُ

يحرسُها فِرعَونُ في قَبرِهِ … فِرعونُ حيٌّ فيهِ لا يُنكَرُ

العَنبَرُ الفَيّاحُ في تربِهِ … وَالمِسكُ في أَرجائِهِ أَذفُرُ

كَاللَيثِ إِذ يَزاَرُ في تَختِهِ … عَرينُهُ يعرفُه الأُقصُرُ

لبنانُ أَنآهُ وَلكِن لَهُ … ذكرٌ بِقَلبي المِسكُ وَالعَنبَرُ

عَسى أَراهُ مُرجِعاً مجدَه … لبنانُ فيهِ المِسكُ وَالعَنبَرُ