أيدَ المنُونِ قدَحتِ أى َّ زِنادِ – محمود سامي البارودي

أيدَ المنُونِ قدَحتِ أى َّ زِنادِ … وأطرتِ أى َّ شعلة ٍ بفؤادى

أوهَنتِ عزمى وهو حَملة ُ فيلقٍ … وحَطَمتِ عودى وهو رُمحُ طِرادِ

لم أدرِ هَلْ خَطبٌ ألمَّ بِساحتى … فَأَنَاخَ، أَمْ سَهْمٌ أَصابَ سَوَادِي؟

أَقْذَى الْعُيُونَ فَأَسْبَلَتْ بِمَدَامِعٍ … تجرى على الخدَّينِ كالفِرصادِ

ما كُنْتُ أَحْسَبُنِي أُراعُ لِحَادِثٍ … حتَّى مُنيتُ بهِ فأَوهَنَ آدى

أَبلتنى الحسراتُ حتَّى لم يكد … جِسْمِي يَلُوحُ لأَعْيُنِ الْعُوَّادِ

أَسْتَنْجِدُ الزَّفَراتِ وَهْيَ لَوافِحٌ … وَأُسَفِّهُ الْعَبَرَاتِ وَهْيَ بَوَادِي

لا لوعتى تدعُ الفؤادَ ، ولا يدى … تقوَى على ردِّ الحبيبِ الغادى

يا دَهْرُ، فِيمَ فَجَعْتَنِي بِحَلِيْلَة ٍ؟ … كانَتْ خَلاصَة َ عُدَّتِي وَعَتَادِي

إِنْ كُنْتَ لَمْ تَرْحَمْ ضَنَايَ لِبُعْدِها … أفلا رحِمتَ منَ الأسى أولادى ؟

أَفْرَدْتَهُنَّ فَلَمْ يَنَمْنَ تَوَجُّعاً … قرحَى العيونِ رواجِفَ الأكباد

أَلْقَيْنَ دُرَّ عُقُودِهِنَّ، وَصُغْنَ مِنْ … دُرِّ الدُّموعِ قلائدَ الأجيادِ

يبكينَ من ولهٍ فراقَ حَفيَّة ٍ … كانتْ لَهنَّ كثيرة َ الإسعادِ

فَخُدُودُهُنَّ مِنَ الدُّمُوعِ نَدِيَّة ٌ … وقًلوبُهنَّ منَ الهمومِ صوادى

أسليلة َ القمرينِ أى ُّ فجيعة ٍ … حَلَّتْ لِفَقْدِكَ بَيْنَ هَذَا النَّادِي؟

أعزز على َّ بأن أراكِ رهينة ً … في جَوْفِ أَغْبَرَ قاتِمِ الأَسْدَادِ

أَوْ أَنْ تَبِينِي عَنْ قَرَارَةِ مَنْزِلٍ … كُنْتِ الضِيَاءَ لَهُ بِكُلِّ سَوَادِ

لَوْ كَانَ هَذَا الدَّهْرُ يَقْبَلُ فِدْيَةً … بِالنَّفْسِ عَنْكِ لَكُنْتُ أَوَّلَ فَادِي

أَوْ كَانَ يَرْهَبُ صَوْلَةً مِنْ فَاتِكٍ … لَفَعَلْتُ فِعْلَ الْحَارِثِ بْنِ عُبَادِ

لَكِنَّهَا الأَقْدَارُ لَيْسَ بِنَاجِعٍ … فِيها سِوَى التَّسْلِيمِ وَالإِخْلادِ

فَبِأَيِّ مَقْدِرَةٍ أَرُدُّ يَدَ الأَسَى … عَنِّي وَقَدْ مَلَكَتْ عِنَانَ رَشَادِي

أَفَأَسْتَعِينُ الصَّبْرَ وَهْوَ قَسَاوَةٌ … أَمْ أَصْحَبُ السُّلْوَانَ وَهْوَ تَعَادِي

جَزَعُ الْفَتَى سِمَةُ الْوَفَاءِ وصَبْرُهُ … غَدْرٌ يَدُلُّ بِهِ عَلَى الأَحْقَادِ

وَمِنَ الْبَلِيَّةِ أَنْ يُسَامَ أَخُو الأَسَى … رَعْيَ التَّجَلُّدِ وَهْوَ غَيْرُ جَمَادِ

هَيْهَاتَ بَعْدَكِ أَنْ تَقَرَّ جَوَانِحِي … أَسَفاً لِبُعْدِكِ أَوْ يَلِينَ مِهَادِي

وَلَهِي عَلَيكِ مُصاحِبٌ لِمَسِيرَتِي … وَالدَّمْعُ فِيكِ مُلازِمٌ لِوِسَادِي

فَإِذَا انْتَبَهْتُ فَأَنْتِ أَوَّلُ ذُكْرَتِي … وَإِذَا أَوَيْتُ فَأَنْتِ آخِرُ زَادِي

أَمْسَيْتُ بَعْدَكِ عِبْرَةً لِذَوِي الأَسَى … فِي يَوْمِ كُلِّ مُصِيبَةٍ وَحِدَادِ

مُتَخَشِّعَاً أَمْشِي الضَّرَّاءَ كَأَنَّنِي … أَخْشَى الْفُجَاءَةَ مِنْ صِيَالِ أَعَادِي

مَا بَيْنَ حُزْنٍ بَاطنٍ أَكَلَ الْحَشَا … بِلَهِيبِ سَوْرَتِهِ وَسُقْمٍ بَادِي

وَرَدَ الْبَرِيدُ بِغَيْرِ ما أَمَّلْتُهُ … تَعِسَ الْبَرِيدُ وشَاهَ وَجْهُ الْحَادِي

فَسَقَطْتُ مَغْشِيَّاً عَلَيَّ كَأَنَّمَا … نَهَشَتْ صَمِيمَ الْقَلْبِ حَيَّةُ وَادِي

وَيْلُمِّهِ رُزءَاً أَطَارَ نَعِيُّهُ … بِالْقَلْبِ شُعْلَةَ مَارِجٍ وَقَّادِ

قَدْ أَظْلَمَتْ مِنْهُ الْعُيُونُ كَأَنَّما … كَحَل الْبُكَاءُ جُفُونَها بِقَتَادِ

عَظُمَتْ مُصِيبَتُهُ عَلَيَّ بِقَدْرِ مَا … عَظُمَتْ لَدَيَّ شَمَاتَةُ الْحُسَّادِ

لامُوا عَلَى جَزَعِي وَلَمَّا يَعْلَمُوا … أَنَّ الْمَلامَةَ لا تَرُدُّ قِيَادِي

فَلَئِنْ لَبِيدُ قَضَى بِحَوْلٍ كَامِلٍ … فِي الْحُزْنِ فَهْوَ قَضَاءُ غَيْرِ جَوَادِ

لَبِسَ الزَّمَانَ عَلَى اخْتِلافِ صُرُوفِهِ … دُوَلاً وَفَلَّ عَرَائِكَ الآبَادِ

كَمْ بَيْنَ عَادِيٍّ تَمَلَّى عُمْرَهُ … حِقَباً وَبَيْنَ حَدِيثَةِ الْمِيلادِ

هَذَا قَضَى وَطَرَ الْحَيَاةِ وتِلْكَ لَمْ … تَبْلُغْ شَبِيبَةَ عُمْرِهَا الْمُعْتَادِ

فَعَلامَ أَتْبَعُ مَا يَقُولُ وَحُكْمُهُ … لا يَسْتَوِي لِتَبَايُنِ الأَضْدَادِ

سِرْ يَا نَسِيمُ فَبَلِّغِ الْقَبْرَ الَّذِي … بِحِمَى الإِمَامِ تَحِيَّتِي ووِدَادِي

أَخْبِرْهُ أَنِّي بَعْدَهُ في مَعْشَرٍ … يَسْتَجْلِبُونَ صَلاحَهُمْ بِفَسَادِي

طُبِعُوا على حَسَدٍ فَأَنْتَ تَرَاهُمُ … مَرْضَى الْقُلُوبِ أَصِحَّةَ الأَجْسَادِ

وَلَوَ انَّهُمْ عَلِمُوا خَبِيئَةَ ما طَوَى … لَهُمُ الرَّدَى لَمْ يَقْدَحُوا بِزِنادِ

كُلُّ امْرِئٍ يَوْماً مُلاقٍ رَبَّهُ … والنَّاسُ فِي الدُّنْيَا عَلى مِيعَادِ

وَكَفَى بِعَادِيَةِ الْحَوَادِثِ مُنْذِراً … لِلْغَافِلِينَ لَوِ اكْتَفُوا بِعَوَادِي

فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ نَظْرَةَ عَاقِلٍ … لِمَصَارِعِ الآباءِ وَالأَجْدَادِ

عَصَفَ الزَمَانُ بِهِمْ فَبَدَّدَ شَمْلَهُمْ … فِي الأَرْضِ بَيْنَ تَهَائِمٍ وَنِجَادِ

دَهْرٌ كَأَنَّا مِنْ جَرَائِرِ سِلْمِهِ … فِي حَرِّ يَوْمِ كَرِيهَةٍ وجِلادِ

أَفْنَى الْجَبَابِرَ مِنْ مَقَاوِلِ حِمْيَرٍ … وأُولِي الزَّعَامَةِ مِنْ ثَمُودَ وَعَادِ

وَرَمَى قُضَاعَةَ فَاسْتَبَاحَ دِيارَهَا … بِالسُّخْطِ مِنْ سابُورَ ذِي الأَجْنَادِ

وَأَصَابَ عَنْ عُرْضٍ إِيادَ فَأَصْبَحَتْ … مَنْكُوسَةَ الأَعْلامِ فِي سِنْدَادِ

فَسَلِ الْمَدَائِنَ فَهْيَ مَنْجَمُ عِبْرَةٍ … عَمَّا رَأَتْ مِنْ حَاضِرٍ أَوْ بَادِي

كَرَّتْ عَلَيْهَا الْحَادِثَاتُ فَلَمْ تَدَعْ … إِلَّا بَقَايَا أَرْسُمٍ وَعِمَادِ

وَاعْكُفْ عَلَى الْهَرَمَيْنِ واسْأَلْ عَنْهُمَا … بَلْهِيبَ فَهْوَ خَطِيبُ ذَاكَ الْوَادِي

تُنْبِئْكَ أَلْسِنَةُ الصُّمُوتِ بِمَا جَرَى … في الدَّهْرِ مِنْ عَدَمٍ ومِنْ إِيْجَادِ

أُمَمٌ خَلَتْ فَاسْتَعْجَمَتْ أَخْبَارُها … حَتَّى غَدَتْ مَجْهُولَةَ الإِسْنَادِ

فَعَلامَ يَخْشَى الْمَرْءُ صَرْعَةَ يَوْمِهِ … أَوَلَيْسَ أَنَّ حَيَاتَهُ لِنَفَادِ

تَعَسَ امْرُؤٌ نَسِيَ الْمَعَادَ وَمَا دَرَى … أَنَّ الْمَنُونَ إِلَيْهِ بِالْمِرْصَادِ

فَاسْتَهْدِ يَا مَحْمُودُ رَبَّكَ وَالْتَمِسْ … مِنْهُ الْمَعُونَةَ فَهْوَ نِعْمَ الْهَادِي

وَاسْأَلْهُ مَغْفِرَةً لِمَنْ حَلَّ الثَّرَى … بِالأَمْسِ فَهْوَ مُجِيبُ كُل مُنَادِي

هِيَ مُهْجَةٌ وَدَّعْتُ يَوْمَ زِيَالِهَا … نَفْسِي وَعِشْتُ بِحَسْرَةٍ وَبِعَادِ

تَاللهِ ما جَفَّتْ دُمُوعي بَعْدَمَا … ذَهَبَ الرَّدَى بِكِ يَا بْنَةَ الأَمْجَادِ

لا تَحْسَبِينِي مِلْتُ عَنْكِ مَعَ الْهَوَى … هَيْهَاتَ مَا تَرْكُ الْوَفاءِ بِعَادِي

قَدْ كِدْتُ أَقْضِي حَسْرَةً لَوْ لَمْ أَكُنْ … مُتَوَقِّعَاً لُقْيَاكِ يَوْمَ مَعَادِي

فَعَلَيْكِ مِنْ قَلْبِي التَّحِيَّةُ كُلَّمَا … نَاحَتْ مُطَوَّقَةٌ عَلَى الأَعْوَادِ