أعدْ على َ السمعِ ذكرْ البانِ وَ العلمِ – محمود سامي البارودي

أعدْ على َ السمعِ ذكرْ البانِ وَ العلمِ … وَاعْذِرْ شَآبِيبَ دَمْعِي إِنْ جَرَتْ بِدَمِ

ملاعبٌ للصبا أقوتْ ، وَ ما برحتْ … ملاعباً للأسى وَ الأعينِ السجمُ

كانتْ لنا سكناً ، حتى إذا قويتْ … منا ، غدتْ سكناً للريحِ وَ الديمِ

لَمْ أَتَخِذْ بَعدَهَا دَاراً أُقِيمُ بِهَا … إِلاَّ تَذَكَّرْتُ أَيَّامِي بِذِي سَلَمِ

وَ كيفَ أنسى دياراً قدْ نشأتُ بها … في منبتِ العزَّ بينَ الأهلِ وَ الحشمِ

يَا مَنْزِلاً، لَمْ يَدَعْ وَشْكُ الْفِرَاقِ بِهِ … إِلاَّ رُسُوماً كَوَحْيِ الْخَطِّ بِالْقَلَمِ

أَيْنَ الَّذِينَ بِهِمْ كَانَتْ نَوَاظِرُنَا … تَرْعَى الْمَحَاسِنَ مِنْ فَرْعٍ إِلَى قَدَمِ

وَدَّعْتُ شَطْرَ حَيَاتِي يوْمَ فُرْقَتِهِمْ … وَ صافحتني يدُ الأحزانِ وَ الهرمِ

فَيَا أَخَا الْعَذْلِ لاَ تَعْجَلْ بِلائِمَة ٍ … عَلَيَّ؛ فَالْحُبُّ مَعْدُودٌ مِنَ الْقِسَمِ

أسرفتَ في اللومِ ، حتى لوْ أصبتَ بهِ … مَقَاطِعَ الْحَقِّ لَمْ تَسْلَمْ مِنَ التُّهَمِ

فَارْحَمْ شَبَابَ فَتًى أَلْوَتْ بِنَضْرَتِهِ … أَيْدِي الضَّنَى ، فَغَدَا لَحْماً عَلَى وَضَمِ

تاللهِ ما غدرة ُ الخلانِ منْ أربى … وَلاَ التَّلوُّنُ فِي الأَخْلاَقِ مِنْ شِيَمِي

فَكيْفَ أُنْكِرُ وُدّاً قدْ أَخَذْتُ بِهِ … عَلَى الْوَفاءِ عُهُوداً بَرَّة َ الْقَسَمِ؟

إِنْ لَمْ يكُنْ لِلْفَتَى عقْلٌ يَصُونُ بِهِ … علائقُ الودَّ ضاعتْ ذمة ُ الحرمِ

وَأَيْنَ مَنْ تَمْلِكُ الأَحْرَارَ شِيمَتُهُ … وَ الغدرُ في الناسِ داءق غيرُ منحسمِ ؟

فانفضْ يديك منَ الدنيا ؛ فلستَ ترى … خِلاًّ وَفِيّاً، وَعَهْداً غَيْرَ مُنْصَرِم

هَيْهَاتَ، لَمْ يَبْقَ فِي الدُّنْيَا أَخُو ثِقَة ٍ … يرعى المودة َ ، أوْ يلقى يدَ السلمِ

فلا يغرنكَ منْ وجهٍ بشاشتهُ … فَالنَّارُ كَامِنَة ٌ فِي نَاخِرِ السَّلَمِ

تغيرَ الناسُ عما كنتُ أسمعهُ … وَاسْتَحْكَمَ الْغَدْرُ فِي السَّادَاتِ وَالْحَشَمِ

وَ ظلَّ أعدلُ منْ تلقاهُ منْ رجلٍ … أَعْدَى عَلَى الْخَلْقِ مِنْ ذِئْبٍ عَلَى غَنَمِ

مِنْ كُلِّ أَشْوَهَ فِي عِرْنِينِهِ فطَسٌ … خالٍ منَ الفضلِ ، مملوءٍ منَ النهمِ

سودُ الخلائقِ ، دلاجونَ ، ما طبعوا … عَلَى الْمَحَارِمِ هَدَّاجُونَ فِي الظُّلَمِ

لا يحسنونَ التقاضي في الحقوقِ ، وَ لاَ … يُوفُونَ بِالْعَهْدِ إِلاَّ خِيفَة َ النِّقَمِ

صُفْرُ الْوُجُوهِ مِنَ الأَحْقَادِ، تَحْسَبُهُمْ … وَ همْ أصحاءُ في درعٍ منَ السقمِ

فلا ذمامة َ في قولٍ وَ لاَ عملٍ … وَ لاَ أمانة َ في عهدٍ وَ لاَ قسمِ

بَلَوْتُ مِنْهُمْ خِلاَلاً لَوْ وَسَمَتْ بِهَا … وَجْهَ الغَزَالَة ِ لَمْ تُشْرِقْ عَلَى عَلَمِ

لمْ أدرِ ، هلْ نبغتْ في الأرضِ نابغة ٌ … أمْ هذهِ شيمة ُ الدنيا منَ القدمِ ؟

لاَ يُدْرِكُ الْمَجْدَ إِلاَّ مَنْ إِذَا نَهَضَتْ … بِهِ الْحَمِيَّة ُ لَمْ يَقْعُدْ عَلَى رَغَمِ

لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسَاعِي مَا يَبِينُ بِهِ … فضلُ الرجالِ تساوى الناسِ في القيمِ

فأيُّ غامضة ٍ لمْ تجلها فطني ؟ … وَأَيُّ بَاذِخَة ٍ لَمْ تَعْلُهَا قَدَمِي؟

وَكَيْفَ لاَ تَسْبِقُ الْمَاضِينَ بَادِرَتِي؟ … وَ السمهرية ُ تخشى الفتكَ منْ قلمي ؟

لكلَّ عصرٍ رجالٌ يذكرونَ بهِ … وَالْفَضْلُ بِالنَّفْسِ لَيْسَ الْفَضْلُ بِالْقِدَمِ