منزل الأقنان في جيكور – بدر شاكر السياب

خرائب فانزع الأبواب عنها تغد أطلالا
خوال قد تصك الريح نافذة فتشرعها إلى الصّبح
تطل عليك منها عين يوم دائب النوح
وسلّمها المحطّم مثل برج داثر مالا

يئن إذا أتته الريح تصعده إلى السطح
سفين تعرك الأمواج ألواحه
وتملأ رحبه الباحة

ذوائب سدرة غبراء تزحمها العصافير
تعد خطى الزمان بسقسقات والمناقير
كأفواه من الديدان تأكل جثّة الصمت
وتملأ عالم الموت

بهسهسة الرثاء فتفزع الأشباح تحسب أنه النور
سيشرق فهي تمسك بالظلال و تهجر الساحة
إلى الغرف الدجيّة و هي توقظ ربّة البيت

لقد طلع الصباح و حين يبكي طفلها الشّبح
تهدهد و تنشد يا خيول الموت في ألواحه
تعالي و احمليني هذه الصحراء لا فرح
يرف بها و لا أمن و لا حب و لا راحة

ألا يا منزل الأقنان كم من ساعد مفتول
رأيت و من خطى يهتز منها صخرك الهاري
و كم أغنية خضراء طارت في الضحى المغسول

بالشمس الخريفيّة
تحدّث عن هوى عاري
كماء الجدول الرقراق كم شوق و أمنّية
و كم ألم طويت و كم سقيت بمدمع جاري

و كم مهد تهزهز فيك كم موت و ميلاد
و نار أوقدت في ليلة القر الشتائية
يدندن حولها القصّاص يحكي أن جنّيه

فيرتجف الشيوخ و يصمت الأطفال في دهش
و إخلاد

كأن زئير آلاف الأسود يرنّ في واد
وقد ضلوا حيارى فيه ثمّ ترنّ أغنية
أتى قمر الزمان و دندن القصّاص جنيّه
وبؤسهم المرير الجوع و الأحزان و السّقم

وطفل مات لما جفّ در ماتت المعزى
و جاعت أمّه فالثدّي لا لبن و لا لحم
سمعت صراخها و الليل ينظر نجمة غمزا
وولولة الأب المفجوع يخنق صوته الألم

و لو خيّرت أبدلت الذي ألقى بما ذاقوا
ممضّ ما أعاني شلّ ظهر و انحنت ساق
على العكّاز أسعى حين أسعى عاثر الخطوات مرتجفا
غريب غير نار الليل ما واساه من أحد

بلا مال بلا أمل يقطّع قلبه أسفا
ألست الراكض العداء في الأمس الذي سلفا
أأمكث أم أعود إلى بلادي آه يابلدي
و ما أمل العليل لديك شح المال ثم رمته بالداء

سهام في يد الأقدار ترمي كلّ من عطفا
على المرضى وشدّ على ضلوع الجائعين بصدره الواهي
و كفكف أدمع الباكين يغسلها بما و كفا
من العبرات في عينيه إلا رحمة الله

لا يا منزل الأقنان سقتك الحيا سحب
تروي قبري الظمآن
تلثمة و تنتحب