دمشق – أحمد شوقي

سَلامٌ مِن صَبا بَرَدى أَرَقُّ … وَدَمعٌ لا يُكَفكَفُ يا دِمَشقُ

وَمَعذِرَةُ اليَراعَةِ وَالقَوافي … جَلالُ الرُزءِ عَن وَصفٍ يَدِقُّ

وَذِكرى عَن خَواطِرِها لِقَلبي … إِلَيكِ تَلَفُّتٌ أَبَدًا وَخَفقُ

وَبي مِمّا رَمَتكِ بِهِ اللَيالي … جِراحاتٌ لَها في القَلبِ عُمقُ

دَخَلتُكِ وَالأَصيلُ لَهُ اِئتِلاقٌ … وَوَجهُكِ ضاحِكُ القَسَماتِ طَلقُ

وَتَحتَ جِنانِكِ الأَنهارُ تَجري … وَمِلءُ رُباكِ أَوراقٌ وَوُرْقُ

وَحَولي فِتيَةٌ غُرٌّ صِباحٌ … لَهُم في الفَضلِ غاياتٌ وَسَبقُ

عَلى لَهَواتِهِم شُعَراءُ لُسنٌ … وَفي أَعطافِهِم خُطَباءُ شُدقُ

رُواةُ قَصائِدي فَاعجَب لِشِعرٍ … بِكُلِّ مَحَلَّةٍ يَرويهِ خَلقُ

غَمَزتُ إِباءَهُمْ حَتّى تَلَظَّتْ … أُنوفُ الأُسدِ وَاضطَرَمَ المَدَقُّ

وَضَجَّ مِنَ الشَكيمَةِ كُلُّ حُرٍّ … أَبِيٍّ مِن أُمَيَّةَ فيهِ عِتقُ

لَحاها اللهُ أَنباءً تَوالَتْ … عَلى سَمعِ الوَلِيِّ بِما يَشُقُّ

يُفَصِّلُها إِلى الدُنيا بَريدٌ … وَيُجمِلُها إِلى الآفاقِ بَرقُ

تَكادُ لِرَوعَةِ الأَحداثِ فيها … تُخالُ مِنَ الخُرافَةِ وَهيَ صِدقُ

وَقيلَ مَعالِمُ التاريخِ دُكَّتْ … وَقيلَ أَصابَها تَلَفٌ وَحَرقُ

أَلَستِ دِمَشقُ لِلإِسلامِ ظِئرًا … وَمُرضِعَةُ الأُبُوَّةِ لا تُعَقُّ

صَلاحُ الدينِ تاجُكَ لَم يُجَمَّلْ … وَلَمْ يوسَمْ بِأَزيَنَ مِنهُ فَرقُ

وَكُلُّ حَضارَةٍ في الأَرضِ طالَتْ … لَها مِن سَرحِكِ العُلوِيِّ عِرقُ

سَماؤُكِ مِن حُلى الماضي كِتابٌ … وَأَرضُكِ مِن حُلى التاريخِ رَقُّ

بَنَيتِ الدَولَةَ الكُبرى وَمُلكًا … غُبارُ حَضارَتَيهِ لا يُشَقُّ

لَهُ بِالشامِ أَعلامٌ وَعُرسٌ … بَشائِرُهُ بِأَندَلُسٍ تَدُقُّ

رُباعُ الخلدِ وَيحَكِ ما دَهاها … أَحَقٌّ أَنَّها دَرَسَت أَحَقُّ

وَهَل غُرَفُ الجِنانِ مُنَضَّداتٌ … وَهَل لِنَعيمِهِنَّ كَأَمسِ نَسقُ

وَأَينَ دُمى المَقاصِرِ مِن حِجالٍ … مُهَتَّكَةٍ وَأَستارٍ تُشَقُّ

بَرَزنَ وَفي نَواحي الأَيكِ نارٌ … وَخَلفَ الأَيكِ أَفراخٌ تُزَقُّ

إِذا رُمنَ السَلامَةَ مِن طَريقٍ … أَتَت مِن دونِهِ لِلمَوتِ طُرقُ

بِلَيلٍ لِلقَذائِفِ وَالمَنايا … وَراءَ سَمائِهِ خَطفٌ وَصَعقُ

إِذا عَصَفَ الحَديدُ احمَرَّ أُفقٌ … عَلى جَنَباتِهِ وَاسوَدَّ أُفقُ

سَلي مَن راعَ غيدَكِ بَعدَ وَهنٍ … أَبَينَ فُؤادِهِ وَالصَخرِ فَرقُ

وَلِلمُستَعمِرينَ وَإِن أَلانوا … قُلوبٌ كَالحِجارَةِ لا تَرِقُّ

رَماكِ بِطَيشِهِ وَرَمى فَرَنسا … أَخو حَربٍ بِهِ صَلَفٌ وَحُمقُ

إِذاما جاءَهُ طُلّابُ حَقٍّ … يَقولُ عِصابَةٌ خَرَجوا وَشَقّوا

دَمُ الثُوّارِ تَعرِفُهُ فَرَنسا … وَتَعلَمُ أَنَّهُ نورٌ وَحَقُّ

جَرى في أَرضِها فيهِ حَياةٌ … كَمُنهَلِّ السَماءِ وَفيهِ رِزقُ

بِلادٌ ماتَ فِتيَتُها لِتَحيا … وَزالوا دونَ قَومِهِمُ لِيَبقوا

وَحُرِّرَتِ الشُعوبُ عَلى قَناها … فَكَيفَ عَلى قَناها تُستَرَقُّ

بَني سورِيَّةَ اطَّرِحوا الأَماني … وَأَلقوا عَنكُمُ الأَحلامَ أَلقوا

فَمِن خِدَعِ السِياسَةِ أَن تُغَرّوا … بِأَلقابِ الإِمارَةِ وَهيَ رِقُّ

وَكَمْ صَيَدٍ بَدا لَكَ مِن ذَليلٍ … كَما مالَتْ مِنَ المَصلوبِ عُنقُ

فُتوقُ المُلكِ تَحدُثُ ثُمَّ تَمضي … وَلا يَمضي لِمُختَلِفينَ فَتقُ

نَصَحتُ وَنَحنُ مُختَلِفونَ دارًا … وَلَكِن كُلُّنا في الهَمِّ شَرقُ

وَيَجمَعُنا إِذا اختَلَفَت بِلادٌ … بَيانٌ غَيرُ مُختَلِفٍ وَنُطقُ

وَقَفتُمْ بَينَ مَوتٍ أَو حَياةٍ … فَإِن رُمتُمْ نَعيمَ الدَهرِ فَاشْقَوا

وَلِلأَوطانِ في دَمِ كُلِّ حُرٍّ … يَدٌ سَلَفَت وَدَينٌ مُستَحِقُّ

وَمَن يَسقى وَيَشرَبُ بِالمَنايا … إِذا الأَحرارُ لَم يُسقوا وَيَسقوا

وَلا يَبني المَمالِكَ كَالضَحايا … وَلا يُدني الحُقوقَ وَلا يُحِقُّ

فَفي القَتلى لِأَجيالٍ حَياةٌ … وَفي الأَسرى فِدًى لَهُمُ وَعِتقُ

وَلِلحُرِّيَّةِ الحَمراءِ بابٌ … بِكُلِّ يَدٍ مُضَرَّجَةٍ يُدَقُّ

جَزاكُمْ ذو الجَلالِ بَني دِمَشقٍ … وَعِزُّ الشَرقِ أَوَّلُهُ دِمَشقُ

نَصَرتُمْ يَومَ مِحنَتِهِ أَخاكُمْ … وَكُلُّ أَخٍ بِنَصرِ أَخيهِ حَقُّ

وَما كانَ الدُروزُ قَبيلَ شَرٍّ … وَإِن أُخِذوا بِما لَم يَستَحِقّوا

وَلَكِن ذادَةٌ وَقُراةُ ضَيفٍ … كَيَنبوعِ الصَفا خَشُنوا وَرَقُّوا

لَهُم جَبَلٌ أَشَمُّ لَهُ شَعافٌ … مَوارِدُ في السَحابِ الجُونِ بُلقُ

لِكُلِّ لَبوءَةٍ وَلِكُلِّ شِبلٍ … نِضالٌ دونَ غايَتِهِ وَرَشقُ

كَأَنَّ مِنَ السَمَوأَلِ فيهِ شَيئًا … فَكُلُّ جِهاتِهِ شَرَفٌ وَخَلقُ